فلما عظم الدين وبلغ الجملة التي فاتت حساب الأيام إلى حساب الأهلة أحضر الشاعر كربه وهمه، ولم يعد "المالح" ينجع فيه، ولا يجد به غذاء، بل حريقًا في الدم، ورأى أنه قد امتحن بهذا "المالح" الخبيث وأشرط نفسه فيه وارتهنها به؛ فلا يزال من "المالح" هم في نفسه، ومغص في جوفه، ولفظ على لسانه، ودين على ذمته؛ ولا يزال مهمومًا به؛ إذ كان على طريق من طريقين: إما الوفاء ولا قدرة عليه من مفلس، وإما الحبس ولا طاقة به لشاعر؛ وحبس ذي الرمة في ثمن "المالح" هو حبس عند الشرطة، ولكنه قتل أو شر من القتل عند صاحبته "مية" إذا ترامى إليها الخبر؛ والأعرابي الجلف الذي يحبس في ثمن "المالح" عند الوالي بعد أن بات زمانًا رهنًا به في حوانيت البقالين لا يصلح عاشقًا لمي وهي: من هي: "لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي.." فلا "المالح" من غذائها، ولا لفظ "المالح" من الكلام الذي يكون في فمها العذب، وأبعد الله جاريتها الزنجية إن لم تأنف لنفسها ومكانها من عشق هذا الأعرابي الغليظ الخشن الذي ألحقه "المالح" باللصوص والغارمين، وأخزاها الله إن لم يكن عشق هذا الأعرابي لها سوادًا على سوادها في الناس، فكيف بمي وهي أصفى من المرأة النقية، وأبيض من الزهرة البيضاء؟
قالوا: ويصنع الله لغيلان المسكين، فيمدح وينافق ويحتال، ويعده الممدوح بالجائزة إذا غذا عليه، ويكون ذلك والشمس نازلة إلى خدرها، فينكفئ الشاعر إلى حوانيت غرمائه من البقالين يبيت فيها أخرى لياليه، ويغلقون عليه وقد سئموه آكلًا وماطلًا، وهان عليهم فلا يعتدونه إلا فأرًا من فئران حوانيتهم غير أنه يأكل فيستوفي، ولم يعد اسمه عندهم ذا الرمة، بل ذا الغمة.. فلم يعطوه لعشائه هذه المرة إلا ما فسد وخبث من عتيق "المالح"، فهو نتن يسمى طعامًا، وداء يباع بثمن، وهلاك يحمل عليه الاضطرار كما يحمل على أكل الجيفة؛ وكانوا قد وضعوه في آنية قذرة متلجنة طال عهدها بالغسل والنظافة وفيها بقية من عفن قديم، فلصق بها ما لصق وتراكب عليها ما تراكب، ووقع فيها ما وقع.
ثم يتهيأ الشاعر لصلاة العشاء يرجو أن تناله بركتها، فيستجيب الله له ويفرج عنه، وقد كان لديه قدح من الماء لوضوئه، ولكن "المالح" الذي تغذى به كان قد أحرق جوفه وأضرم على أحشائه وهو في صيف قائظ، فما زال يطفئه بالشربة بعد الشربة، والمصة بعد المصة، حتى اشتف القدح وأتى عليه، فيكسل عن الصلاة ويلعن "المالح" وما جر عليه! ثم يعضه الجوع فيكسر خبرته