ويسمى ويغمس اللقمة ثم يرفعها فيجد لها رائحة منكرة، فينظر في الآنية وقد نفذ إليه الضوء من قنديل الحارس، فإذا في "المالح" خنفساء قد انفجرت شبعًا، ويدقق النظرة فإذا دويبة أخرى قد تفسخت وهرأها "المالح" وفعل بها وفعل! قالوا: وتثب نفسه إلى حلقه، ولا يرى الطاعون والبلاد الأصفر والأحمر إلا هذا "المالح"، فيتحول إلى كوة الحانوت يتنسم الهواء منها ويتطعم الروح وهي مضببة بالحديد، ولا يزال يراعي منها الليل ويقدره منزلة منزلة بحساب البادية، وهو بين ذلك يلعن "المالح" عدد ما يسبح العابد القائم في جوف الليل، ويطول ذلك عليه، حتى إذا كان ينشق لمع الفجر لعينه، فلا يراه الشاعر إلا كالغدير يتفجر بالماء الصافي ويود لو انصب هذا الضوء في جوفه ليغسله من "المالح" وأوضار "المالح"؛ ثم يأتي الله بالفرج وبصاحب الحانوت فيفتح له، ويغدو ذو الرمة على الممدوح فيقبض الجائزة، وينقلب إلى حوانيت البقالين فيوفي أصحابها ما عليه؛ ولا يبقى معه إلا دراهم معدودة، فيخرج من البصرة على حمار اكتراه وقد فتحت له آفاق الدنيا، وكأنما فر من موت غير الموت، ليس اسمه البوار ولا الهلاك ولا القتل، ولكن اسمه "المالح"!
قالوا: ويحركه الحمار للشعر كما كانت تحركه الناقة، فيقول: أخزاك الله من حمار بصري، إن أنت في المراكب إلا "كالمالح" في الأطعمة! ثم يغلبه الطبع ينزو به الطرب وتهزه الحياة، فيهتاج للشعر ويذكر شوقه وحبه ودار مي، وفي "عقله الباطن" حوانيت وحوانيت من "المالح"، فيأتي هذا "المالح" في شعره ويدخل في لغته، فيقول الشعر الذي أهمل الأصمعي روايته لأن فيه "المالح" وما أدري أنا ما هو، ولكن لعله مثل قول الآخر:
ولو تفلت في البحر والبحر "مالح" ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
أو مثل قول القائل:
بصرية تزوجت بصريا ... يطعمها "المالح" والطريا
هذه في الرواية التمثيلية التي تفسر كلام الأصمعي، ولا مذهب عنها في التعليل؛ إذ صار "المالح" كلمة نفسية في لغة ذي الرمة، على رغم أنف الأحمر والأسود والأصمعي وأبي عبيدة؛ فالرجل من الحجج في العربية إلا في كلمة "المالح"، فإنه هنا عامي بقال حوانيتي نزل بطبعه على حكم