إذا اعتبرت الخيال في الذكاء الإنساني وأوليته دقة النظر وحسن التمييز، لم تجده في الحقيقة تقليدًا من النفس للألوهية بوسائل عاجزة منقطعة، قادرة على التصور والوهم بمقدار عجزها عن الإيجاد والتحقيق.
وهذه النفس البشرية الآتية من المجهول في أول حياتها، والراجعة إليه آخر حياتها، والمسددة في طريقه مدة حياتها، لا يمكن أن يتقرر في خيالها أن الشيء الموجود قد انتهى بوجوه، ولا ترضى طبيعتها بما ينتهي؛ فهي لا تتعاطى الموجود فيما بينها وبين خيالها على أنه قد فرغ منه فما يبدأ، وتم فما يزاد، وخلد فلا يتحول؛ بل لا تزال تضرب ظنها وتصرف وهمها في كل ما تراه أو يتلجلج في خاطرها، فلا تبرح تتلمح في كل وجود غيبًا، وتكشف من الغامض وتزيد في غموضه، وتجري دأبًا على مجاريها الخيالية التي توثق صلتها بالمجهول؛ فمن ثم لا بد في أمرها مع الموجود مما لا وجود له، تتعلق به وتسكن إليه؛ وعلى ذلك لا بد في كل شيء -مع المعاني التي له في الحق- من المعاني التي له في الخيال؛ وها هنا موضع الأدب والبيان في طبيعة النفس الإنسانية، فكلاهما طبيعي فيها كما ترى.
وإذا قيل: الأدب، فاعلم أنه لا بد معه من البيان؛ لأن النفس تخلق فتصور فتحسن الصورة؛ وإنما يكون تمام التركيب في معرضه وجمال صورته ودقة لمحاته؛ بل ينزل البيان من المعنى الذي يلبسه منزلة النضج من الثمرة الحلوة إذا كانت الثمرة وحدها قبل النضج شيئًا مسمى أو متميزًا بنفسه، فلن تكون بغير النضج شيئًا تامًا ولا صحيحًا، وما بد من أن تستوفي كمال عمرها الأخضر الذي هو بيانها وبلاغتها.
وهذه مسألة كيفما تناولتها فهي هي حتى تمضيها على هذا الوجه الذي رأيت في الثمرة ونضجها، فإن البيان صناعة الجمال في شيء جماله هو من فائدته،