للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحي القبور *:

ذهبت في صبح يوم عيد الفطر أحمل نفسي بنفسي إلى المقبرة، وقد مات لي من الخواطر موتي لا ميت واحد؛ فكنت أمشي وفي جنازة بمشيعيها؛ من فكر يحمل فكرًا، وخاطر يتبع خاطرًا، ومعنى يبكي، ومعنى يكبى عليه.

وكذلك دأبي كلما انحدرت في هذه الطريق إلى ذلك المكان الذي يأتيه العيون بدموعها، وتمشي إليه النفوس بأحزانها، وتجيء فيه القلوب إلى بقاياها. تلك المقابر التي لا ينادى أهلها من أهليهم بالأسماء ولا بالألقاب، ولكن بهذا النداء: يا أحبابنا، يا أحزاننا!

ذهبت أزور أمواتي الأعزاء وأتصل منهم بأطراف نفسي، لأحيا معهم في الموت ساعة أعرض فيها أمر الدنيا على أمر الآخرة، فأنسى وأذكر، ثم أنظر وأعتبر، ثم أتعرف وأتوسم، ثم أستبطن مما في بطن الأرض، وأستظهر مما على ظهرها.

وجلست هناك أشرف من دهر على دهر، ومن دنيا على دنيا، وأخرجت الذاكرة أفراحها القديمة لتجعلها مادة جديدة لأحزانها؛ وانفتح لي الزمن الماضي فرأيت رجعة الأمس، وكأن دهرًا كاملًا خلق بحوادثه وأيامه، ورفع لعيني كطما ترفع الصورة المعلقة في إطارها.

أعرف أنهم ماتوا، ولكني لم أشعر قط إلا أنهم غابوا؛ والحبيب الغائب لا يتغير عليه الزمان ولا المكان في القلب الذي يحبه مهما تراخت به الأيام؛ وهذه هي البقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى: تترك فيها ما لا يمحى لأنها هي خالدة لا تمحى.

ذهب الأموات ذهابهم ولم يقيموا في الدنيا، ومعنى ذلك أنهم مروا بالدنيا ليس غير، فهذه هي الحياة حين تعبر عنها النفس بلسانها لا بلسان حاجتها وحرصها.


* أنشأها في صبيحة يوم العيد وانظر "عود على بدء" من كتاب حياة الرافعي.

<<  <  ج: ص:  >  >>