للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أمراء للبيع]

قال الشيخ تاج الدين محمد بن علي المقلب طوير الليل، أحد أئمة الفقهاء بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة*:

كان شيخنا الإمام العظيم شيخ الإسلام تقي الدين بن مجد الدين بن دقيق العيد** لا يخاطب السلطان إلا بقوله: "يا إنسان"! فما يخشاه ولا يتعبد له ولا ينحله ألقاب الجبروت والعظمة ولا يزينه بالنفاق ولا يداجيه كما يصنع غيره من العلماء؛ وكان هذا عجيبًا؛ غير أن تمام العجب أن الشيخ لم يكن يخاطب أحدًا قط من عامة الناس إلا بهذا اللفظ عينه: "يا إنسان"؛ فما يعلو بالسلطان والأمراء ولا ينزل بالضعفاء والمساكين، ولا يرى أحسن ما في هؤلاء وهؤلاء إلا الحقيقة الإنسانية!

ثم كان لا يعظم في الخطاب إلا أئمة الفقهاء فإذا خاطب منهم أحدًا قال له: "يا فقيه"؛ على أنه لم يكن يسمح بهذا إلا لمثل شيخ الإسلام نجم الدين ابن الرقعة***، ثم يخص علاء الدين بن الباجي وحده بقوله: "يا إمام"؛ إذ كان آية من آيات الله في صناعة الحجة، لا يكاد يقطعه أحد في المناظرة والمباحثة؛ فهو كالبرهان. إجلاله إجلال الحق؛ لأن فيه المعنى وتثبيت المعنى.

وقلت له يومًا: يا سيدي، أراك تخاطب السلطان بخطاب العامة؛ فإن علوت قلت: "يا إنسان"، وإن نزلت قلت: "يا إنسان"؛ أفلا يسخطه هذا منك وقد تذوَّق حلاوة ألفاظ الطاعة والخضوع، وخصه النفاق بكلمات هي ظل الكلمات التي يوصف الله بها، ثم جعله الملك إنسانًا بذاته في وجود ذاته، حتى أصبح من غيره كالجبل والحصاة؛ يستويان في العنصر ويتباينان في القدر، وأقله مهما قل هو أكثرها مهما عظمت، ووجوده شيء ووجودها شيء آخر؟


* توفي سنة ٧١٧هـ.
** كانت وفاته سنة ٧٠٢.
*** توفي سنة ٧١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>