فتبسم الشيخ وقال: يا ولدي، إيش هذا؟ إننا نفوس ألفاظ، والكلمة من قائلها هي بمعناها في نفسه لا بمعناها في نفسها؛ فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده الشرع عليه؛ ولو نافق الدين لبطل أن يكون دينًا، ولو نافق العالم الديني لكان كل منافق أشرف منه؛ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود، والمنافق رجل مغطى في حياته، ولكن عالم الدين رجل مشكوف في حياته لا مغطى؛ فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة؛ وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل، فإذا نافق فقد كذب؛ والعالم يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين، فإذا نافق فقد كذب وغش وخان.
وما معنى العلماء بالشرع إلا أنهم امتداد لعمل النبوة في الناس دهرًا بعد دهر، ينطقون بكلمتها، ويقومون بحجتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآة النور، تحويه في نفسها وتلقيه على غيرها، فهي أداةٌ لإظهاره وإظهار جماله معًا.
أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخذ من نور واحد لا يختلف؟ إن أولئك في أخلاقهم كاللوح من البلور؛ يظهر النور نفسه فيه ويظهر حقيقته البلورية؛ وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب يظهر النور حقيقته الخشبية لا غير!
وعالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها؛ فيسهل عليه أن يتأول ويحتال ويغير ويبدل ويظهر ويخفي؛ ولكن العالم الحق يفكر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة، فهو معه في كل حالة يسأله ماذا تفعل وماذا تقول؟
والرجل الديني لا تتحول أخلاقه ولا تتفاوت ولا يجيء كل يوم من حوادث اليوم، فهو بأخلاقه كلها، لا يكون مرة ببعضها ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه: هم يعطوني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟
إن الدينار يا ولدي إذا كان صحيحًا في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعضه، فهو زائف كله؛ وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع هؤلاء يتعاملون مع قوة الهضم فيهم ... فينزلون بذلك منزلة البهائم؛ تقدم أعمالها لتأخذ بطونها، والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله..
فإذا رأيت لعلماء السوء وقارًا فهو البلادة، أو رقة فسمها الضعف، أو محاسنة فقل إنها النفاق، أو سكوتًا عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها!