قال الإمام: وما رأيت مثل شيخي سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام* فلقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئًا تصنعه طبيعته كما يصنع جسمه الحياة، فلا يبالي هلك فيه أو عاش؛ إذ هو في الدم كالقلب، لا تناله يد صاحبه ولا يد غيره؛ ولم يتعلق بمال ولا جاه ولا ترف ولا نعيم، فكان تجرده من أوهام القوة لا تغلب؛ وانتزع خوف الدنيا من قلبه فغمرته الروح السماوية التي تخيف كل شيء ولا تخاف؛ وكان بهذه الروح كأنه تحويل وتبديل في طباع الناس، حتى قال الملك الظاهر بيبرس وقد رأى كثرة الخلْق في جنازته حين مرَّت تحت القلعة: الآن استقر أمري في الملك، فلو أن هذا الشيخ دعا الناس إلى الخروج علي لانتزع مني المملكة!
وكان سلطانه في دمشق الصالح إسماعيل، فاستنجد بالإفرنج على الملك نجم الدين أيوب سلطان مصر؛ فغضب الشيخ وأسقط اسم الصالح من الخطبة وخرج مهاجرًا، فأتبعه الصالح بعض خواصه يتلطف به ويقول له: ما بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وأكثر مما كنت عليه إلا أن تتخشع للسلطان وتقبل يده. فقال له الشيخ: يا مسكين! أنا لا أرضى أن يقبل السلطان يدي! أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ!
ثم قدم إلى مصر في سنة ٦٣٩، فأقبل عليه السلطان نجم الدين أيوب وتحلى به وولاه خطابة مصر وقضاءها، وكان أيوب ملكًا شديد البأس، لا يجسر أحد أن يخاطبه إلا مجيبا، ولا يتكلم أحد بحضرته ابتداء؛ وقد جمع من المماليك الترك ما لم يجتمع مثله لغيره من أهل بيته، حتى كان أكثر أمراء عسكره منهم، وهم معروفون بالخشونة والبأس والفظاظة والاستهانة بكل أمر؛ فلما كان يوم العيد صعد إليه الشيخ وهو يعرض الجند ويظهر ملكه وسطوته والأمراء يقبلون الأرض بين يديه؛ فناداه الشيخ بأعلى صوته؛ ليسمع هذا الملأ العظيم: يا أيوب! ثم أمره بإبطال منكرٍِ انتهى إلى علمه في حانة تباع فيها الخمر؛ فرسم السلطان لوقته بإبطال الحانة واعتذر إليه.
فحدثني الباجي قال: سألت الشيخ بعد رجوعه من القلعة وقد شاع الخبر، فقلت: يا سيدي، كيف كانت الحال؟
قال: يا بني، رأيته في تلك العظمة فخشيت على نفسه أن يدخلها الغرور فتبطره فكان ما باديته به.
قلت: أما خِفتَه؟
* هو الإمام العظيم شيخ الإسلام عبد العزيز بن عبد السلام بركة الدنيا في عصره، توفي سنة٦٦٠.