للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: يا بني، استحضرت هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامي كالقط* ولو أن حاجة من الدنيا كانت في نفسي لرأيته الدنيا كلها؛ بيد أني نظرت بالآخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظور للناس، فلا عظمة ولا سلطان ولا بقاء ولا دنيا، بل هو لا شيء في صورة شيء.

نحن يا ولدي مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحح معنى آخر، فإذا أمرناهم، فالذي يأمرهم فينا هو الشرع لا الإنسان، وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفها؛ فما بد أن يقابلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحق في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها؛ فإذا كان ذلك فههنا المعنى بإزاء المعنى؛ فلا خوف ولا مبالاة ولا شأن للحياة والموت.

وإنما الشر كل الشر أن يتقدم إليهم العالم لحظوظ نفسه ومنافعها، فيكون باطلًا مزورًا في صورة الحق؛ وههنا تكون الذات مع الذات، فيخشع الضعف أمام القوة، ويذل الفقر بين يدي الغنى، وترجو الحياة لنفسها وتخشى على نفسها؛ فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة حاولت أن تقارع السيف!

كلا يا ولدي! إن السلطان والحكام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها، فإذا تفككت واحتاجت إلى مسامير دقت فيها المسامير؛ وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخُزّه؟

إن العالم الحق كالمسمار؛ إذا أوجد المسمار لذاته دون عمله كفرت به كل خشبة..

قال الإمام تقي الدين: وطغى الأمراء من المماليك وثقلت وطأتهم على الناس؛ وحيثما وجدت القوة المسلطة المستبدة جعلت طغيانها واستبدادها أدبًا وشريعة؛ إلا أن تقوم بأزائها قوة معنوية أقوى منها؛ ففكر شيخنا في هؤلاء الأمراء، وقال: إن خداع القوة الكاذبة لشعور الناس باب من الفساد؛ إذ يحسبون كل حسن منها هو الحسن، وإن كان قبيحًا في ذاته ولا أقبح منه؛ ويرون كل قبيح عندها هو القبيح، وإن كان حسنًا ولا أحسن منه.

وقال: ما معنى الإمارة والأمراء؟ وإنما قوة الكل الكبير هي عماد الفرد الكبير، فلكل جزء من هذا الكل حقه وعمله؛ وكان ينبغي أن تكون هذه الإمارة


* هذه كلمات الشيخ بحروفها.

<<  <  ج: ص:  >  >>