أعمالًا نافعة قد كبرت وعظمت فاستحقت هذا اللقب بطبيعة فيها كطبيعة أن العشرة أكثر من الواحد، لا أهواء وشهوات ورذائل ومفاسد تتخذ لقبها في الضعفاء بطبيعة كطبيعة أن الوحش مفترس.
وفكر الشيخ فهداه تفكيره إلى أن هؤلاء الأمراء مماليك، فحكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، ويجب شرعًا بيعهم كما يباع الرقيق!
وبلغهم ذلك فجزعوا له وعظم فيه الخطب عليهم؛ ثم احتدم الأمراء وأيقنوا أنهم بإزاء الشرع لا بإزاء القاضي ابن عبد السلام.
وأفتى الشيخ أنه لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة، وأنه لا يصحح لهم شيئًا من هذا حتى يباعوا ويحصل عنقهم بطريق شرعي!
ثم جعلوا يتسببون إلى رضاء، ويتحملون عليه بالشفاعات، وهو مُصِرٌّ لا يعبأ بجلالة أخطارهم، ولا يخشى اتسامه بعداوتهم، فرفعوا الأمر إلى السلطان، فأرسل إليه فلم يتحول عن رأيه وحكمه.
واستشنع السلطان فعله وحنق عليه وأنكر منه دخوله فيما لا يعنيه، وقبح عمله وسياسته وما تطاول إليه، وهو رجل ليس له إلا نفسه وما تكاد تصل يده إلى ما يقيمه وهم وافرون وفي أيديهم القوة ولهم الأمر والنهي.
وانتهى ذلك إلى الشيخ الإمام فغضب ولم يبالِ بالسلطان ولا كبر عليه إعراضه، وأزمع الهجرة من مصر، فاكترى حميرًا أركب أهله وولده عليها ومشى هو خلفهم يريد الخروج إلى الشام، فلم يبعد إلا قليلًا نحو نصف بريد حتى طار الخبر في القاهرة ففزع الناس وتبعوه لا يتخلف منهم رجل ولا امرأة ولا صبي، وصار فيهم العلماء والصلحاء والتجار والمحترفون كأن خروجه خروج نبي من بين المؤمنين به، واستعلنت قوة الشرع في مظهرها الحاكم الآمر من هذه الجماهير، فقيل للسلطان: إن ذهب هذا الرجل ذهب ملكك!
فارتاع السلطان، فركب بنفسه ولحق بالشيخ يترضاه ويستدفع به غضب الأمة، وأطلق له أن يأمر بما شاء، وقد أيقن أنه ليس رجل الدينار والدرهم والعيش والجاه ولبْس طيلسان العلماء كما يلصق الريش على حجر في صورة الطائر.
ورجح الشيخ وأمر أن يعقد المجلس ويجمع الأمراء وينادي عليهم للمساومة في بيعهم، وضرب لذلك أجلًا بعد أن يكون الأمر قد تعالمه كل القاهرة؛ ليتهيأ من يتهيأ للشراء والسوم في هذا الرقيق الغالي!