للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان من الأمراء المماليك نائب السلطنة، فبعث إلى الشيخ يلاطفه ويسترضيه، فلم يعبأ الشيخ به؛ فهاج هائجه وقال: كيف يبيعنا هذا الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلة العبيد ويفسد محلنا من الناس ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الأرض؟ وما الذي يفقد هذا الشيخ من الدنيا فيدرك ما نحن فيه؟ إنه يفقد ما لا يملك، ويفقد غير الموجود، فلا جرم لا يبالي ولا يرجع عن رأيه ما دام هذا الرأي لا يمر في منافعه، ولا في شهواته ولا في أطماعه، كالذين نراهم من علماء الدنيا؛ أما والله لأضربنه بسيفي هذا، فما يموت رأيه وهو حي.

ثم ركب النائب في عسكره وجاء إلى دار الشيخ واستل سيفه وطرق الباب، فخرج ابنه عبد اللطيف ورأى ما رأى فانقلب إلى أبيه وقال له: انج بنفسك، إنه الموت، وإنه السيف، وإنه وإنه ...

فما اكترث الشيخ لذلك ولا جزع ولا تغير، بل قال له: يا ولدي! أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله!

وخرج لا يعرف الحياة ولا الموت، فليس فيه الإنساني بل الإلهي، ونظر إلى نائب السلطنة وفي يده السيف، فانطلقت أشعة عينيه في أعصاب هذه اليد فيبست ووقع السيف منها.

وتناوله بروحه القوية، فاضطرب الرجل وتزلزل وكأنما تكسر من أعصابه فهو يرعد ولا يستقر ولا يهدأ.

وأخذ النائب يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له؛ ثم قال: يا سيدي، ما تصنع بنا؟

قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم!

وفيم تصرف ثمننا؟

في مصالح المسلمين.

ومن يقبضه؟

أنا.

وكان الشرع هو الذي يقول: "أنا"، فتم للشيخ ما أراد، ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا، واشتط في ثمنهم، لا يبيع الواحد منهم حتى يبلغ الثمن آخر ما يبلغ؛ وكان كل أمير قد أعد من شيعته جماعة يستامونه؛ ليشتروه ...

ودمغ الظلم والنفاق والطغيان والتكبر والاستطالة على الناس بهذه الكلمة التي أعلنها الشرع:

أمراء للبيع! أمراء للبيع..

<<  <  ج: ص:  >  >>