وقال صاحب سر "م" باشا: جاءني يوما صحفي إنجليزي من هؤلاء الكتاب المتعصبين الذين تطلقهم إنجلترا كما تطلق مدافعها؛ غير أن هذه للبارود والرصاص والقنابل وأولئك للكذب والتهم والمغالطات.
وهو أذن وعين ولسان وقلم لجريدة إنجليزية كبيرة، معروفة بثقل وطأتها على الشرق والإسلام؛ وتصلح بإفساد، وتداوي الحمى بالطاعون، وتعمل في نهضة الشرقيين واستقلالهم ما يشبه قطع ثدي الأم وهو في شفتي رضيعها المسكين.
ودخل علي هذا الكاتب في الساعة التي خرج فيها من غرفتي صاحب جريدة أسبوعية في مدينتنا، كان قد نفخ الضفدع ليجعلها ثورًا، فحول صحيفته إلى جريدة يومية، وهو لا يجد مادتها ولا يستطيع أسبابها، إلا أنه كدأب الناس عندنا كان يحسب الكذب في العمل سهلا مهلا١ كالكذب في القول، فلم يتعاظمه الأمر العظيم، واقترض لعمله كل ألفاظ النجاح من اللغة ...
وظن عند نفسه أنه سيخوف بجريدته الكبراء والأعيان والمياسير حتى يغلب على جميعهم، ويشرك أصابعه مع أصابعهم في استخراج ما يحتاج إليه من جيوبهم؛ فلم تعش جريدته إلا أياما وأتلف ما جمع، ورهن فيها داره التي لا يملك غيرها؛ وعلم آخرا أن الذي يكذب فيسمي الخروف جملا، لا يقبل منه أن يكذب على الكذب نفسه، فيزعم أن الناقة هي التي نتجت هذه الخروف ...
ولما انقلبت هذه الجريدة يومية كان الباشا هو ملجأ الرجل ووزره، وكان لكل يوم في الجريدة أخبار عن الباشا لا تقع في الدنيا ولا تجمع من الحوادث، ولكن تقع في ذهن الكاتب، وتجمع من صناديق الحروف؛ حتى قال لي الباشا مرة: إن اسمي قد أصبح موظفا في هذه الجريدة لجمع الاشتراك ...
١ هذا الاستعمال مما وضعناه نحن وليس في اللغة، وهو من باب الاتباع كقولهم: حسن بسن، وشيطان ليطان ... إلخ.