للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

البؤساء ١:

ترجم حافظ هذا الجزء الثاني من البؤساء فطوى به الأول، وكانوا يحسبون الأول قد عقمت بمثله البلاغة فلا ثاني له. وبين الجزأين زمن لو اتسع به أديب في قراءة كتب الأدب لاستوعبها كلها، فكأن ارتفاع السن بحافظ في هذه المدة جعل منه في قوة الأدب حافظين يترجمان معًا.

وما البؤساء في ترجمته إلا فكر فيلسوف تعلق في قلم شاعر فانطفعت عليه حواشي البيان من كل نواحيه، وجاء ما تدري أشعرًا من النثر أم نثرًا من الشعر، وخرجت به الكتابة في لون من الصفاء والإشراق كأنما تنحل عليه أشعة الضحى.

ترجم حافظ فوضع اللغة بين فكره ولسانه، ووقف تحت سحابة من السحب التي خفق عليها جناح جبريل، فما تخلو كنايته من ظل يتنفس عليك برائحة الإعجاز؛ وتراه يتحدر مع الكلام ويتناول منه ويدع، فما نزع به الكلام منزعًا إلا وجده متمكنًا منه وأصابه حيث أصابه كالتيار جملة واحدة تلف أول النهر وآخره على مد ما يجري؛ فهو حيث كان في السهل وفي الصعب، غير أنه يستسر في موضع ويستعلن في موضع، ويجيش ويهدر ويترامى في العمق فيدوِّي دويًّا.

ومن هنا يحسبه بعضهم يجنح إلى ما يستجفي من الكلام، وإلى استكراه بعض الألفاظ والتكليف لبعضها؛ وإنما ذاك وضع من أوضاع اللغة ومذهب من مذاهب البلاغة، ولا بد أن يشتد القول ويلين، وأن يكون في أجراس الحروف ما في نغم الإيقاع؛ وما أشبه هندسة البيان بهندسة الطبيعة التي تغمز النهر وترمي بالبحر وتقذف بالجبل الأشم، وما الجبل لو تحققت في وجوه التناسب الطبيعي إلا بحر قد تحجر فانتشرت أمواجه من صخوره، وكلا اثنيهما على ما بين الصلابة واللين تعبير في أساليب القوة عن القوة، وتوضح لأقوى ما لا يمكن أن يظهر، بأقوى ما لا يمكن أن يخفى.


١ كتبها عن الجزء الثاني من البؤساء؛ وانظر مقالي المؤلف عن حافظ في هذا الجزء.

<<  <  ج: ص:  >  >>