ليدل بذلك على أن أجود شعر وأبدعه وأفصحه وما أجمعوا على تقدمه في الصناعة والبيان، هو قبيل آخر غير نظم القرآن لا يمتنع من آفات البشرية ونقصها وعوارها؛ فركب في ذلك رأسه ورجليه معًا ... فأصاب وأخطأ، وتعسف وتهدى، وأنصف وتحامل؛ وكل ذلك لمكانة امرئ القيس في ابتكاره البياني الذي لا يمكن أن يدفع عنه؛ ولما انتقد قوله:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
قال:"فقد قالوا: عنى بذلك أنها كبيضة خدر في صفائها ورقتها، وهذه كلمة حسنة ولكن لم يسبق إليها بل هي دائرة في أفواه العرب". ألا ليت شعري هل كان الباقلاني يسمع من أفواه العرب في عصر امرئ القيس قبل أن يقول "وبيضة خدر"؟
على أن الكناية عن الحبيبة "بيضة الخدر" من أبدع الكلام وأحسن ما يؤتى العقل الشعري، ولو قالها اليوم شاعر في لندن أو باريس بالمعنى الذي أراده امرؤ القيس -بما فسرها به الباقلاني- لاستبدعت من قائلها ولأصبحت مع القبلة على كل فم جميل؛ بل هم يمرون في بعض بيانهم من طريق هذه الكلمة، فيكنون عن البيت الذي يتلاقى فيه الحبيبان "بالعش"، وما يتخذ العش إلا للبيضة. إنما عني الشاعر العظيم أن حبيبته في نعومتها وترفها ولين ما حولها، ثم في مسها وحرارة الشباب فيها، ثم في رقتها وصفاء لونها وبريقها، ثم في قيام أهلها وذويها عليها ولزومهم إياها، ثم في حذرهم وسهرهم، ثم في انصرافهم بجملة الحياة إلى شأنها وبجملة القوة إلى حياطتها والمحاماة عنها -هي في كل ذلك منهم، ومن نفسها كبيضة الجارح في عشه، إلا أنها بيضة خدر، ولذلك قال بعد هذا البيت:
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرًا ... علي حراصًا لو يسرون مقتلي
فتلك بعض معاني الكلمة وهي كما ترى، وكذلك ينبغي أن يفسر البيان....