للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استعمال العرب كما أجراه، فهو يصب اللغة صبًّا في أوضاعه لأهلها لا في أوضاع أهلها؛ وبذلك يحقق من نحو ألف وأربعمائة سنة ما لا نظن فلسفة الفن قد بلغت إليه في هذا العصر؛ إذ حقيقة الفن على ما نرى أن تكون الأشياء كأنها ناقصة في ذات أنفسها ليس في تركيبها إلا القوة التي بنيت عليها، فإذا تناولها الصنع الحاذق الملهم أضاف إليها من تعبيره ما يشعرك أنه خلق فيها الجمال العقلي، فكأنها كانت في الخلقة ناقصة حتى أتمها.

وهذا المعنى الذي بيناه هو الذي كان يحوم عليه الرواة والعلماء بالشعر قديمًا، يحسونه ولا يجدون بيانه وتأويله، فترى الأصمعي مثلًا يقول في شعر لبيد؛ إنه طيلسان طبري. أي محكم متين، ولكن لا رونق له؛ أي فيه القوة وليس فيه الجمال؛ أي فيه التركيب وليس فيه الفن.

والعقل البياني كما قلنا في غير هذه الكلمة، هو ثروة اللغة، وبه وبأمثاله تعامل التاريخ، وهو الذي يحقق فيها فنَّ ألفاظها وصورها؛ فهو بذلك امتدادها الزمني وانتقالها التاريخي وتخلقها مع أهلها إنسانية بعد إنسانية في زمن بعد زمن، ولا تجديد ولا تطور إلا في هذا التخلق متى جاء من أهله والجديرين به؛ وهو العقل المخلوق للتفسير والتوليد وتلقي الوحي وأدائه واعتصار المعنى من كل مادة وإدارة الأسلوب على كل ما يتصل به من المعاني والآراء، فينقلها من خلقتها وصيغها العالية إلى خلق إنسان بعينه، هو هذا العبقري الذي رزق البيان.

وللسبب الذي أومأنا إليه بقي امرؤ القيس كالميزان المنصوب في الشعر العربي يبين به الناقص والوافي؛ قال الباقلاني في كتابه "الإعجاز": وقد ترى الأدباء أولًا يوازنون بشعر "يريد امرأ القيس" فلانًا وفلانًا ويضمون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه "توفي الباقلاني سنة ٤٠٣ للهجرة" وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة، وربما فضلوهم عليه أو سووا بينهم وبينه أو قربوا موضع تقدمه عليهم وبروزه بين أيديهم، اهـ.

ومعنى كلامه أن امرأ القيس أصل في البلاغة، قد مات ولا يزال يخلق، وتطورت الدنيا ولا يزال يجيء معها، وبلغ الشعر العربي غايته ولا تزال عربية عند الغاية.

وعرض الباقلاني في كتابه طويلة امرئ القيس* فانتقد منها أبياتًا كثيرة،


* أي معلقته، وهذه القصائد التي تسمى المعلقات ولم تعلق كما سنبينه في تاريخ آداب العرب.
"قلت: انظر الجزء الثالث".

<<  <  ج: ص:  >  >>