... وجاء من الغد أبو يحيى مالك بن دينار إلى المسجد، فصلى بالناس، ثم تحول إلى مجلس درسه وتعكفوا حوله؛ وكانوا إلى بقية خبره في لهفة كأن لها عمرًا طويلًا في قلوبهم، لا ظمأ ليلة واحدة.
وقال منهم قائل: أيها الشيخ، جعلت فداك، ما كان تأويل الحسن لتلك الآية من كلام الله تعالى؟ وكيف رجع الكلام في نفسك مرجع الفكر تتبعه، وأصبح الفكر عندك عملًا تحذو عليه، واتصل هذا العمل فكان ما أنت في ورعك و ... ؟
فقطع الإمام عليه وقال: هوِّن عليك يا هذا؛ إن شيخك لأهون من أن تذهب في وصفه يمينًا أو شمالًا، وقد روى لنا الحسن يومًا ذلك الخبر الوارد فيمن يُعذب في النار ألف عام من أعوام القيامة، ثم يدركه عفو الله فيخرج منها، فبكى الحسن وقال:"يا ليتني كنت ذلك الرجل! " وهو الحسن يا بني، هو الحسن....!
فضج الناس وصاح منهم صائحون: يا أبا يحيى قتلتنا يأسًا. وقال الأول: إذا كان هذا فأوشك أن يعمنا اليأس والقنوط، فلا ينفعنا عمل، ولا نأتي عملًا ينفع.
قال الشيخ: هونوا عليكم، فإن للمؤمن ظنين: ظنا بنفسه، وظنا بربه؛ فأما ظنه بالنفس فينبغي أن ينزل بها دون جَمَحَاتها ولا يفتأ ينزل؛ فإذا رأى لنفسه أنها لم تعمل شيئًا أوجب عليها أن تعمل، فلا يزال دائمًا يدفعها؛ وكلما أكثرت من الخير قال لها: أكثري. وكلما أقلت من الشر قال لها: أقلي. ولا يزال هذا دأبه ما بقي؛ وأما الظن بالله فينبغي أن يعلو به فوق الفترات والعلل والآثام، ولا يزال يعلو؛ فإن الله عند ظن عبده به، إن خيرًا فله وإن شرًّا فله. ولقد روينا هذا الخبر: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ قال: لا! فقتله فكمل به مائة! ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ قال: نعم؛ ومن يحول بينك وبين