للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الدنيا والدرهم "٤"]

قال أحمد بن مسكين: وأزف ترحلي عن "بلخ"، وتهيأت للخروج، ولم يبق من مدة مقيلي بها إلا أيام يجيء فيها السبت الرابع، وكان قد وقعت مماراة بيني وبين مفتي "بلخ" أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف الباهلي١ تلميذ أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، ويزعمون أنه شحيح على المال، وأنه يتغلله من مستغلات كثيرة٢، فكأنما غشيته غمامتي، فهو لا يرى أن أتكلم في الزهد، ويحسب هذا الزهد تماوت العباد، ونفض الأيدي من الدنيا، وسوء المصاحبة لما ينعم الله به على العبد، وخذلان القوة في البدن، وما جرى هذا المجرى من تزوير الحياة بالأباطيل التي زعم أنها أباطيل الطاعات وما أقربها من أباطيل المعصية. ولم يكن هذا المفتي قد سمعني ولا حضر مجلسي, ولولا الذي لم يعرفه من ذلك لقد كان عرف.

وجادلته فرأيته واهن الدليل، ضعيف الحجة، يخمن تخمين فقيه، وينظر إلى الخفايا من حقائق النفوس نظر صاحب النص إلى الظاهر، كأن الحقيقة إذا ألقيت على الناس مضت نافذة كفتوى المفتي, ويزعم أن الوعظ وعظ الفقهاء، يقولون: هذا حرام، فيكون حراما لا يقارفه أحد، وهذا حلال, فيكون حلالا لا يتركه أحد، وهو كان بعيدًا عن حقيقة الوعظ ومداخله إلى النفس وسياسته فيها، ولا يعرف أن الحقيقة كالأنثى, إن لم تزين بزينتها لم تستهو أحدًا؛ وأن الموعظة إن لم تتأد في أسلوبها الحي كانت بالباطل أشبه، وأنه لا يغير النفس إلا النفس التي فيها قوة التحويل والتغيير، كنفوس الأنبياء ومن كان من طريقة روحهم، وأن هذه الصناعة إنما هي وضع نور البصيرة في الكلام، لا وضع القياس الحجة،


١ توفي مفتي بلخ هذا سنة ٣٣٩هـ.
٢ المستغلات: أصول الأموال، وتغلل واستغل بمعنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>