تعود بها إلى حقائقها الترابية الصغيرة التي آخرها القبر، وآخر وجودها التلاشي.
فالبصر الكاشف الذي يجرد الأشياء من سحرها الوهمي، هذا هو كل السر.
قال الشيخ: لعنك الله؛ فكيف مع هذا تفتن المؤمن؟
قال إبليس: يا أبا عامر، هذا سؤال شيطاني, تريد -ويحك- أن تحتال على الشيطان؟ ولكن ما يضرني أن أفسرها لك.
ليس الإيمان هو الاعتقاد ولا العمل، ولو كان من هذين لما شق على أحد ولصلحت الدنيا وأهلها؛ إنما الإيمان وضع يقين خفي يكون مع الغريزة في مقرها، ويصلح أن يكون في مقرها لتصدر عنه أعمال الغريزة، وهذا اليقين لا يصلح كذلك إلا إذا كان يقينا ثابتا بما هو أكبر من الدنيا، فيرجع إليه الإنسان فيتذكر فيبصر. هناك ميراث من الآخرة للمؤمن، فاليقين بهذا الميراث هو سر الإيمان.
والعمل الشيطاني لا يكون إلا في إفساد هذا اليقين ومعارضة الخيال العظيم الذي فيه بالحقائق الصغيرة التي تظهر للمغفل عظيمة، كما تشب نار أكبر من قرص الشمس ثم يقال للأبله: انظر بعينيك، فيصدق أنها أكبر من الشمس.
ومتى صغر هذا اليقين وكانت الحقائق الدنيوية أكبر من النفس؛ فأيسر أسباب الحياة حينئذ يفسد المعتقد ويسقط الفضيلة؛ وبدرهم واحد يوجد اللص حينئذ.
أما إذا ثبت اليقين فالشيطان مع الإنسان يصغر ثم يصغر، ويعجز ثم يعجز.
حتى ليرجع مثل الدرهم إذا طمع الطامع أن يجعل الرجل الغني الكثير المال لصا من اللصوص بهذا الدرهم.
قال الشيخ: لعنك الله! فإن لم تستطع إفساد هذا اليقين فكيف تصنع في فتنة المؤمن؟
قال إبليس: يا أبا عامر، إن لم أستطع إفساد اليقين زدته يقينا فيفسد، واستحسان الرجل لأعماله السامية قد يكون هو أول أعماله السافلة؛ وبأي عجيب يكون الشيطان إلا بمثل هذا؟
قال أحمد بن مسكين: وغضب الشيخ، فمد يده فأخذ فيها عنق إبليس وقد رآه دقيقا، ثم عصره عصرا شديدًا يريد خنقه؛ فقهقه الشيطان ساخرًا منه. ويتنبه الشيخ، فإذا هو يشد بيده اليمنى على يده اليسرى.