للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا تصبغ البحر، وأنا أعد الزهاد والعلماء المصلحين فأضع في الناس بجانب كل واحد منهم مائة ألف امرأة مفتونة، ومائة ألف رجل فاسق، ومائة ألف مخلوق ظالم، فلو أنك صبغت البحر بملء قارورة حمراء لما صبغت البحر الإنساني بالزاهد والمصلح، ما دام المصلح شيئا غير السيف، وما دام الزاهد شيئا غير الحاكم.

قال الشيخ: لعنك الله من شيطان عارم، فإذا وضعت المصلح بين مائة ألف فاسد، فهل هذه إلا طريقة شيطانية لإفساده؟

قال إبليس: ومائة ألف امرأة فتانة مفتونة يا أبا عامر، كل واحدة تحسب جسمها ...

فصرخ الشيخ: اغرب عني عليك لعنة الله!

قال إبليس: ولكن الآية الآية يا أبا عمر. لقد لقيت المسيح وجربته وهو كان تفسيرها.

قال الشيخ: عليه السلام! وعليك أنت لعنة الله! فكيف قال؟ وكيف صنع؟

قال إبليس: ألقيت به جائعا في الصحراء لا يجد ما يطعمه، ولا يظن أنه يجد، ولا يرجوا أن يظن؛ ثم قلت له: إن كنت روح الله وكلمته كما تزعم فمر هذا الحجر ينقلب خبزًا، فكان تقيا، فتذكر فإذا هو مبصر، فقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فمثل هذا لو مات جوعا لم يتحول، لأن الموت إتمام حقيقته السامية فوق هذه الدنيا، ولو ملئت له الدنيا خبزًا وهو جائع لم يتحول؛ لأن له بصرا من فوق الخبز إلى حقيقته السماوية؛ ليس بالخبز وحده يحيا؛ بل بمعان أخرى هي إشباع حقيقته السماوية التي لا شهوة لها.

ثم ارتقيت به إلى ذروة جبل وأريته ممالك الخافقين، كشفتها كلها لعينيه وقلت له: هذا كله لك إذا أنت سجدت لي. فكان متقيا، فتذكر فإذا هو مبصر: أبصر حقيقة الخيال الذي جسمته له، وعلم أن الشيطان يعطي مثل معاني هذه الممالك في جرعة خمر، كما يعطيها في ساعة لذة، كا يعطيها في شفاء غيظ بالقتل والأذى؛ ثم لا يبقى من كل ذلك باق غير الإثم، ولا يصح منه صحيح إلا الحرام. ومن ملك الدنيا نفسها لم يبق لها إذا بقيت فهي خيال في جرعة الحياة، كما هي خيال في جرعة الخمر.

يا أبا عامر؛ إن هذا النظر، الذي وراءه التذكر، الذي وراءه التقوى، التي وراءها الله, هذا وحده هو القوة التي تتناول شهوات الدنيا فتصفيها أربع مرات حتى

<<  <  ج: ص:  >  >>