للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأن الرجل الزاهد الصحيح الزهد، إنما هو الحياة تلبسها الحقيقة لتكون به شيئا في الحياة والعمل. لا شيئا في القول والتوهم، فيكون إلهامها فيه كحرارة النار في النار؛ من واتاها أحسها.

ولعمري، كم من فقيه يقول للناس: هذا حرام. فلا يزيد هذا الحرام إلا ظهورًا وانكشافًا ما دام لا ينطق إلا نطق الكتب، ولا يحسن أن يصل بين النفس والشرع، وقد خلا من القوة التي تجعله روحا تتعلق الأرواح بها وتضعه بين الناس في موضع يكون به في اعتبارهم كأنه آت من الجنة منذ قريب، راجع إليها بعد قريب.

والفقيه الذي يتعلق بالمال وشهوات النفس، ولا يجعل همه إلا زيادة الرزق وحظ الدنيا -هو الفقيه الفاسد الصورة في خيال الناس، يفهمهم أول شيء ألا يفهموا عنه؛ إذ حرصه فوق بصيرته، وله في النفوس رائحة الخبز، وله معنى: خمس وخمس عشرة١, وكأن دنياه وضعت فيه شيئا فاسدًا غريبًا يفسد الحقيقة التي يتكلم بها؛ ولست أدري ما هو هذا الشيء، ولكني رأيت فقهاء يعظون ويتكلمون على الناس في الحرام والحلال وفي نص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم لم أجد لكلامهم نفعا ولا ردًا، إذ يلهمون الناس بأرواحهم غير المعنى الذي يتكلمون فيه؛ وتسخر الحقيقة منهم -على خطرهم وجلال شأنهم- بذات الأسلوب الذي تسخر به من لص يعظ لصا آخر فيقول له: لا تسرق.

قال ابن مسكين: فلما دار يوم السبت أقبل الناس على المسجد أفواجًا، وكانوا قد تعالموا إزماعي الرحيل عن بلدهم, وجاء "لقمان الأمة" في أشياعه وأصحابه، وجاء أبو إسحاق المفتي في جماعته؛ واستقر بي المجلس فنفذت الناس بنظري، فكأنهم من كثرتهم نبات غطى الأرض، فأذكرني هذا شيخنا السري بن مغلس السقطي٢، وكان قد لزم دراه في بغداد لا يخرج منها ولا يراه إلا من قصد إليه، وهممت أن أجعل الموعظة في شرح كلمته المشهورة: "لا تصح المحبة بين اثنين حتى يقول أحدهما للآخر: يا أنا". وما نقلوه عنه من أنه قال مرة


١ يريد أنه في هذا الدنيا "عملية حسابية" وفي أيام ضعفة الدين يكون الفقه استخراج الدراهم من النصوص.
٢ السقط: رديء المتاع "روبابيكيا"، وبائعه السقطي. وهذا الإمام العظيم كان أوحد أهل زمانه في الورع، وله كلام إلهي مشرق، وقد توفي عن سن عالية في سنة ٢٥٣هـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>