للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لبعض أصحابه: منذ ثلاثين سنة وأنا في الاستغفار من قولي: "الحمد لله". فقال صاحبه: وكيف ذلك؟ قال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني رجل فقال: نجا حانوتك. فقلت: الحمد لله فأنا نادم من ذلك الوقت على ما قلت؛ إذ أردت لنفسي خيرًا من الناس!

قال ابن مسكين: ولكني أحببت أن أكلم المفتي ومال المفتي؛ فحدثتهم حديث معرفتي بالسري: أني سمعت يوما "غيلان الخياط" يقول: إن السري كان اشترى كرلوز١ بستين دينارًا، وأثبته في رزنامجه٢ وكتب أمامه: ربحه ثلاثة دنانير٣؛ فلم يلبث أن غلا السعر فبلغ تسعين دينارًا؛ فأتاه الدلال الذي كان اشترى له فقال: أريد ذلك اللوز. قال الشيخ: خذه. قال: بكم؟ فقال: بثلاثة وستين دينارًا. وكان الدلال رجلا صالحا، فقال للشيخ: إن اللوز قد صار الكر بتسعين. فقال السري: ولكني عقدت بيني وبين الله عقدا لا أحله، فلست أبيع إلا بثلاثة وستين دينارًا، فقال الدلال: وأنا قد عقدت بيني وبين الله عقدا لا أحله، ألا أغش مسلما، فلست أشتري منك إلا بتسعين؛ فلا الدلال اشترى منه، ولا السري باعه ... !

قال أحمد بن مسكين: فلما سمعت ذلك لم تكن لي همة إلا أن ألقى الشيخ وأصحبه، وآخذ عنه، فلم أعرج على شيء حتى كنت في المسجد الذي يصلي فيه، فأجده في حلقته وعنده ممن كانت أعرفهم: عبد الله بن أحمد بن حنبل، وإدريس الحداد، وعلي بن سعيد الرازي، وحوله خلق كثير وهو فيهم كالشجرة الخضراء بين الهشيم تعلوه نضرة روحه، وكأنما يمده بالنور عرق من السماء، فهو يتلألأ للعين؛ ولا يملك الناظر إليه إلا أن يحسن في ذات نفسه أنه الأدنى، من رؤيته في ذات نفسه أن هذا هو الإنسان الأعلى.

ورأيت على وجهه آلاما تمسحه مسحة الأشواق لا مسحة الآلام، آثار ما يجده في روحه القوية، لا كآلام الاس التي هي آثار الحرمان في أرواحهم الواهنة الضعيفة فلا تمسح وجوههم إلا مسحة الغم والكآبة.

وما يخطئ النظر في تمييز آلام السماء على هذه الوجوه السعيدة من آلام الأرض في الوجوه الأخرى، فإن الأولى تتندى على روح الناظر بمثل الطل إذا


١ الكر "بضم الكاف": مكيال عظيم يقدرون به في الحساب، وهو أربعون إردبًا مصريًا.
٢ أي دفتر حسابه.
٣ خمسة في المائة.

<<  <  ج: ص:  >  >>