قطره الفجر، والأخرى تتثور في روحه كما تهيج الغبرة إذا ضربت الريح الأرض.
كان الشيخ في وجود فوق وجودنا؛ فلا تتلون له الأشياء ولا تعدو عنده ما هي في نفسها، ولا يحمل الشيء له إلا معناه من حيث يصلح أو لا يصلح، ومن حيث ينبغي أو لا ينبغي، فإنما تتلون الأشياء عند ما يضع الشيطان عينه في عين الناظر إليها؛ وإنما تزيد وتنقص في القلب عندما يكون روح الشيطان في القلب؛ وإنما يشتبه ما ينبغي وما لا ينبغي عندما يأتي الشيء من جهتين: جهته من طبيعته هو، وجهته من طبيعتنا نحن. وبهذا قد يجمع الإنسان المال ثم لا يجد في المال معنى الغنى، وقد تتفق أسباب النعيم ولا يكون منها إلا الذل. وكم من إنسان يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يبغي، وآخر لم يجد شيئا ووجد بذلك راحته.
قال ابن مسكين: وما كان أشد عجبي حين تكلم الشيخ، فقد أخذ يجيب عما في نفسي ولم أسأله، كأن الذي في فكري قد انتقل إليه؛ فروى الحديث: $"إذا عظمت أمتي الدينار والدرهم، نزع منها هيبة الإسلام؛ وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرموا بركة الوحي". ثم قال في تأويله:
إن ملك الوحي ينزل بالأمر والنهي ليخضع صولة الأرض بصولة السماء، فإذا بقي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بقي عمل الوحي إلا أنه في صورة العقل، وبقيت روحانية الدنيا إلا أنها في صورة النظام، وكان مع كل خطأ تصحيحه؛ فيصبح الإنسان بذلك تنفيذًا للشريعة بين آمر مطاع ومأمور مطيع، فيتعامل الناس على حالة تجعل بعضهم أستاذا لبعض، وشيئا منهم تعديلا لشيء، وقوة سندًا لقوة فيقوم العزم في وجه التهاون، والشدة في وجه التراخي، والقدرة في وجه العجز؛ وبهذا يكونون شركاء متعاونين، وتعود صفاتهم الإنسانية وكأنها جيش عامل يناصر بعضه بعضًا، فتكون الحياة مفسرة ما دامت معانيها السامية تأمر أمرها وتلهم إلهامها، وما دامت ممثلة في الواجب النافذ على الكل.
والناس أحرار متى حكمتهم هذه المعاني، فليست حقيقة الحرية الإنسانية إلا الخضوع للواجب الذي يحكم، وبذلك لا بغيره يتصل ما بين الملك والسوقة، وما بين الأغنياء والفقراء، اتصال الرحمة في كل شيء، واتصال القسوة في التأديب وحده. فبركة الوحي إنما هي جعل القوة الإنسانية عملا شرعيًّا لا غير.
أما تعظيم الأمة للدنيا والدرهم، فهو استعباد المعاني الحيوانية في الناس