للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العيش، وغلبه ما لا بد أن يغلب من تسلط "واعيته الباطنة"*.

والحكمة التي تخرج من هذه الرواية أن أبلغ الناس ينحرف بعمله كيف شاءت الحرفة، ولا بد أن تقع المشابهة بين نفسه وعمله، فربما أراد بكلامه وجهًا وجاء به الهاجس على وجه آخر؛ وإذا كان في النفس موضع من مواضعها أفسده العمل- ظهر فساده في الذوق والإدراك فطمس على مواضع أخرى؛ فلا تنتظر من صحافي قد ارتهن نفسه بحرفة الكلام ألا يكون له في الأدب والبلاغة "مالح" كمالح ذي الرمة، وإن كان أبلغ الناس لا أبلغ كتاب الصحف وحدهم.

و"المالح" الذي رأيناه لكاتب بليغ من أصحابنا١ أنه كتب في إحدى الصحف عن ديوان هو في شعر هذه الأيام كالبعث بعد موت شوقي وحافظ رحمهما الله فيأتي بالمجاز بعد الاستعارة بعد الكناية مما قاله الشاعر، ثم يقول: هذا عجيب تصوره. لا أعرف ماذا يريد. البلى للشعاع غير مقبول؛ ولا يزال ينسحب على هذه الطريقة من النقد ثم يعقب على ذلك بقوله: "والأصل في الكتابة أنها للإفهام، أي نقل الخاطر أو الإحساس من ذهن إلى ذهن ومن نفس إلى نفسي، ولا سبيل إلى ذلك إذا كانت العبارة يتعاورها الضعف والإبهام والركاكة وقلة العناية بدقة الأداء؛ وإذا كنت تستعمل اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد به فكيف تتوقع مني أن أفهم منك؟

لا، لا، هذا "مالح" من مالح الأدب، فإذا كان الضعف والإبهام والركاكة وسوء الإفهام وضعف الأداء -آتية في رأي الكاتب من استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له -فإن محاسن البيان من التشبيه واستعارة والمجاز والكناية ليس لها مأتى كذلك إلا استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له.

وعلى طريقة الكاتب كيف يصنع في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: ٢٣]

أتراه يقول: كيف قدم الله، وهل كان غائبًا أو مسافرًا، وكيف قدم إلى عمل، وهل العمل بيت أو مدينة؟


* وضعنا هذه الكلمة لما يسمى "العقل الباطن"، وهي أدق في التعبير تستوفي كل معاني الكلمة، ولا معنى لأن يكون هناك عقل، ثم يكون باطنًا غافلًا، فإن هذا لا يسوغه الاشتقاق.
١ يعني المازني، وكان له نقد لديوان "الملاح التائه".

<<  <  ج: ص:  >  >>