ثم كيف يصنع في هذه الآية:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ}[هود: ٤٤] ، أيسأل: وهل للأرض حلق تحركه عضلاته للبلع، وإذا كان لها حلق أفلا يجوز أن ترمي فيه فتحتاج إلى غرغرة وعلاج وطب؟
وماذا يقول في حديث البخاري:"إني لأسمع صوتًا كأنه صوت الدم، أو صوتًا يقطر منه الدم -كما في الأغاني- أيوجه الاعتراض على الصوت وجرحه ودمه، ويسأل: بماذا جرح، وما لون هذا الدم، وهل للصوت عروق فيجري الدم فيها؟
إن الإفهام ونقل الخاطر والإحساس ليست هي البلاغة وإن كانت منها، وإلا فكتابة الصحف كلها آيات بينات في الأدب؛ إذ هي من هذه الناحية لا يقدح فيها ولا يغض منها، وما قصرت قط في نقل خاطر ولا استغلقت دون إفهام.
ههنا خوان في مطعم كمطعم "الحاتي" مثلًا عليه الشواء والملح والفلفل والكواميخ أصنافًا مصنفة، وآخر في وليمة عرس في قصر وعليه ألوانه وأزهاره، ومن فوقه الأشعة ومن حوله الأشعة الأخرى من كل مضيئة في القلب ينور وجهها الجميل، أفترى السهولة كل السهولة إلا في الأول؟ وهل التعقيد كل التعقيد إلا في الثاني؟ ولكن أي تعقيد هو؟ إنه تعقيد فني ليس إلا، به ينضاف الجمال في المنفعة، فتجتمع الفائدة والاستمتاع وتزين المائدة والنفس معًا؛ وهو كذلك تعقيد فني لاءم بين إبداع الطبيعة وإبداع الفكر، وجاء بروح الموسيقى التي يقوم عليها الكون الجميل فبثها في هذه الأشياء التي تقوم بها المائدة الجميلة، واستنزل سر الجاذبية فجعل للمائدة بما عليها شعورًا متصلًا بالقلوب من حيث جعل للقلوب شعورًا متصلًا بالمائدة.
وهذا التعقيد الذي صور في الجماد دقة فن العاطفة، هو بعينه فنية السهولة وروحيتها؛ وتلك السذاجة التي في المائدة الأخرى هي السهولة المادية بغير فن ولا روح، وفرق بينهما أن إحداهما تحمل قصيدة رائعة من الطعام وما يتصل به، والأخرى تحمل من الطعام وما يتصل به مقالة كمقالات الصحف!
والوجه في الشوهاء وفي الجميلة واحد: لا يختلف بأعضائه ولا منافعه، ولا في تأديته معاني الحياة على أتمها وأكملها؛ بيد أن انسجام الجميل يأتي من إعجاز تركيبه وتقدير قسماته وتدقيق تناسبه، وجعله بكل ذلك يظهر فنه النفسي بسهولة منسجمة هي فنيَّته وروحيته؛ أما الآخر فلا يقبل هذا الفن ولا يظهر منه شيئًا؛ إذ كان قد فقد التدقيق الهندسي الذي هو تعقيد فن التناسب، وجاء على المقاييس السهلة من طويل إلى قصير، إلى ما يستدير وما يعرض، إلى ما ينشأ من هنا وينخسف من