للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هناك، كالوجنة البارزة، والشدق الغائر، فهذه السهولة في الوضع كما يتفق، هي بعينها التعقيد المطلق عند الفن الذي لا محل فيه للفظة "كما يتفق".

والطريقة التي يكون بها الجمال جميلًا هي بعينها الطريقة التي يكون بها البيان بليغًا، فالمرجع في اثنيهما إلى تأثيرهما في النفس، وأنت فقل: إن هذا مفهوم وهذا غير مفهوم، وذاك سهل والآخر معقد، وواضح ومغلق، ومستقيم على طريقته ومحول عن طريقته؛ إنك في ذلك لا تدل على شيء تعيبه أو تمدحه في الجمال أو البلاغة أكثر مما تدل على ما يمدح أو يعاب في نفسك وذوقها وإدراكها.

ومعاني الاختلاف لا تكون في الشيء المختلف فيه، بل في الأنفس المختلفة عليه؛ فإن محالًا أن تكون الجميلة ممدوحة مذمومة لجمالها في وقت معًا، وإلا كانت قبيحة بما هي به حسناء، وهذا أشد بعدًا في الاستحالة، وحكمك على شيء هو عقلك أنت في هذا الشيء.

ومتى اتفق الناس على معنى يستحسنونه وجدت دواعي الاستحسان في أنفسهم مختلفة، وكذلك هم في دواعي الذم إذا عابوا؛ ولكن متى تعينت الوجوه التي بها يكون الحكم، ورجع إليها المختلفون، والتزموا الأصول التي رسمتها وتقررت بها الطريقة عندهم في الذوق والفهم، فذلك ينفي أسباب الاختلاف لما يكون من معاني التكافؤ وخاصة المناسبة، ولهذا كان الشرط في نقد البيان أن يكون من كاتب مبدع في بيانه لم تفسده نزعة أخرى، وفي نقد الشعر أن يكون من شاعر علت مرتبته وطالت ممارسته لهذا الفن فليس له نزعة أخرى تفسده.

وما المجازات والاستعارات والكنايات ونحوها من أساليب البلاغة إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية؛ إذ هي بطبيعتها تريد دائمًا ما هو أعظم، وما هو أجمل، وما هو أدق؛ وربما ظهر ذلك لغير هذه النفس تكلفًا وتعسفًا ووضعًا للأشياء في غير مواضعها، ويخرج من هذا أنه عمل فارغ وإساءة في التأدية وتمحل لا عبرة به، ولكن فنية النفس الشاعرة تأبى إلا زيادة معانيها، فتصنع ألفاظها صناعة توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف إحساسها؛ فمن ثم لا تكون الزيادة في صور الكلام وتقليب ألفاظه وإدارة معانيه إلا تهيئة لهذه الزيادة في شعور النفس؛ ومن ذلك يأتي الشعر دائمًا زائدًا بالصناعة البياينة؛ لتخرجه هذه الصناعة من أن يكون طبيعيًّا في الطبيعة إلى أن يكون روحانيًّا في الإنسانية، والشعور المهتاج المتفزز غير الساكن المتبلد، والبيان في صناعة اللغة يقابل هذا النحو، فتجد من التعبير ما هو حي متحرك، وما جامد مستلقٍ كالنائم

<<  <  ج: ص:  >  >>