أساليب الفكر: ولكن أين رجال الفصاحة المتمكنون منها، المتعصبون لها العاملون على بثها في الألسنة، مع أن عصرهم أوسع من عصر الرواة، بكثرة ما أخرجت المطابع من أمهات الكتب والدواوين، حتى أغنت كل مطبعة أدبية عن راوية من أئمة الرواة.
والسبب الثاني الذي من أجله لا يزال الشعر متخلفًا عن منزلته الواجبة له سقوط فن النقد الأدبي في هذه النهضة؛ فإن من أقوى الأسباب التي سمت بالشعر فيما بعد القرن الثاني وجعلت أهله يبالغون في تجويده وتهذيبه، كثرة النقاد والحفاظ. وتتبعهم على الشعراء، واعتبار أقوالهم، وتدوين الكتب في نقدهم، كالذي كان في دروس العلماء وحلقات الرواية ومجالس الأدب، وكالذي صنفه مهلهل بن يموت في نقد أبي نواس وأحمد بن طاهر، وابن عمار في أبي تمام، وبشر بن تميم في البحتري، والآمدي في الموازنة، والحاتمي في رسالته، والجرجاني في الوساطة، وما لا يحصى من مثل هذه الكتب والرسائل، وأنت من النقد في هذه النهضة بين اثنين: صديق هو الصديق أو عدو هو العدو.. فإن ابتغيت لهما ثالثًا فكاتب لا تتعادل وسائل النقد فيه فلا خير في كلامه، أما الناقد الذي استعرض علم العربية وآدابها، وكان شاعرًا كاتبًا قوي العارضة، دقيق الحس ثاقب الذهن، مستوي الرأي بصيرًا بمذاهب الأدب متمكنًا من فلسفة النقد مبرزًا في ذلك كله- فهذا الخيال يذكرني كلمة قلتها يومًا للبارودي إذ قلت له: إن الشاعر لا يكون لسان زمنه حتى يوجد معه الناقد الذي هو عقل زمنه؛ فقال: ومن ناقد الشعر في رأيك؟ قلت: الكاتب وهو شاعر، والأديب وهو فيلسوف، والمصلح وهو موفق؛ فكأنما هولت عليه حتى قال -رحمه الله- "فين دا كله؟ " قلت: فلعله لا ينشئ لنا هذا العقل الملتهب إلا العصر الذي يوجد لنا أسطولًا كأسطول انجلترا.
وعلى ما نزل بالشعر العصري من هذين السببين فقد استقلت طريقته وظهر فيه أثر التحول العلمي والانقلاب الفكري، وعدل به أهله إلى صور الحياة بعد أن كان في أكثره صورًا من اللغة، وأضافوا به مادة حسنة إلى مجموعة الأفكار العربية، ونوعوا منه أنواعًا بعد أن كان كالشيء الواحد، واتسعت فيه دائرة الخيال بما نقلوا إليه من المعاني المترجمة من لغات مختلفة، وهو من هذه الناحية أوسع من شعر كل عصر في تاريخ هذه اللغة: إذ كان الأولون إنما يأخذون من اليونانية والفارسية، ثم أخذ المتأخرون قليلًا قليلًا من التركية؛ أما في العهد الأخير فيكاد