العقل الإنساني كله يكون مادة الشاعر العربي، لولا ضعف أكثر المحدثين من النشء الجديد في البيان وأساليبه، وبعدهم من ذوق اللغة واعتياص مرامها عليهم، حتى حسبوا أن الشعر معنى وفكر، وأن كل كلام أدى المعنى فهو كلام، ولا عليهم من اللغة وصناعتها، والبيان وحقيقته؛ وحتى صرنا والله من بعض الغثاثة والركاكة والاختلال في شر من توعر نظم الجاهلية وجفاء ألفاظه وكزازة معانيه؛ وهل ثم فرق بين أن تنفر النفس من الشعر؛ لأنه وعر الألفاظ عسير الاستخراج شديد التعسف، وبين أن تمجه؛ لأنه ساقط اللفظ، متسول المعنى، مضطرب السياق؟ ثم تراهم ينجزون الشعر كله على اختلاف أغراضه نمطًا واحدًا من تسهيل اللفظ ونزوله، حتى كأن هذه اللغة لا تنوع في ألفاظها وأجراس ألفاظها، مع أن هذا التنوع من أحسن محاسنها وأخص خصائصها دون غيرها من اللغات، كما أن كل تنوع هو من أبدع أسباب الجمال والقوة في كل فن؛ ولا يدري أصحابنا أن كل ذلك من عملهم عبث في عبث إذا هم لم يعطوا الشعر حقه من صناعة اللغة؛ وهذا شاعر الفرس الشهير مصلح الدين السعدي الشيرازي إمام من أئمة البلاغة في قومه لا يدفع مكانه وشعره مثل من أسمى الأمثلة في جمال المنطق الروحي، وليس في الناس إلا من يسلم له هذا المحل من النبوغ، وهو مع ذلك حين نظم الشعر لم تنفعه نافعة من حكمة أو خيال أو فكر، وذهب في التعسف كل مذهب، وحمل على كلامه من العيوب ما لم يسلم معه إلا صحة الوزن، كقوله في وصف نكبة بغداد وتخريبها:
فقد ثكلت أم القرى ولكعبة ... مدامع في الميزان تسكب في الحجر
على جدر المستنصرية ندبة ... على العلماء الراسخين ذوي الحجر
نوائب دهر ليتني مت قبلها ... ولم أر عدوان السفيه على الحبر
محابر تبكي بعدهم بسوادها ... وبعض قلوب الناس تألف بالغدر
لحى الله من تسدي إليه بنعمة ... وعند هجوم اليأس أحلك من حبر
فانظر أي شعر هذا في الركاكة والهذيان والسخف، وفي خمود الفكر وضعف الروح وذهاب الرونق، وتأمل كيف هوى به السعدي من مكانته التي بوأه إياها أدبه العالي، وكيف سقط إلى حيث ترى، مع أنه في محراب الفكر إمام وراءه صفوف من عصور البلاغة.
ومن ههنا نشأ في أيامنا ما يسمونه " الشعر المنثور"، وهي تسمية تدل على