جهل واضعها ومن يرضاها لنفسه؛ فليس يضيق النثر بالمعاني الشعرية، ولا هو قد خلا منها في تاريخ الأدب؛ ولكن سر هذه التسمية أن الشعر العربي صناعة موسيقية دقيقة يظهر فيها الاختلال لأوهى علة ولأيسر سبب، ولا يوفق إلى سبك المعاني فيها إلا من أمده الله بأصح طبع وأسلم ذوق وأفصح بيان؛ فمن أجل ذلك لا يحتمل شيئًا من سخف اللفظ أو فساد العبارة أو ضعف التأليف، ولا تستوي فيه أمسى المعاني مع شيء من هذه العلل وأشباهها، وتراه يلقي بمثل "السعدي" من الفلك الأعلى إلى الحضيض، لا يقيم له وزنًا ولا يرعى له محلًا ولا يقبل فيه عذرًا ولا رخصة؛ غير النثر يحتمل كل أسلوب، وما من صورة فيه إلا ودونها صورة إلى أن تنتهي إلى العامي الساقط والسوقي البارد؛ ومن شأنه أن ينبسط وينقبض على ما شئت منه، وما يتفق فيه من الحسن الشعري فإنما هو كالذي يتفق في صوت المطرب حين يتكلم لا حين يغني: فمن قال: "الشعر المنثور" فاعلم أن معناه عجز الكاتب عن الشعر من ناحية وادعاؤه من ناحية أخرى.
والذي أراه جديدًا في الشعر العربي مما أبدعته هذه النهضة أشياء:
أولًا: هذا النوع القصصي الذي توضع فيه القصائد الطوال، فإن الآداب العربية خالية منه؛ وكان العرب ومن بعدهم إذا ذكروا القصة ألموا بها اقتضابًا وجاءوا بها في جملة السياق على أنها مثل مضروب أو حكمة مرسلة أو برهان قائم أو احتجاج أو تعليل وما جرى هذا المجرى مما لا ترد فيه القصة لذاتها ولا لتفصيل حوادثها؛ وهو كثير في شعر الجاهليين والإسلاميين، والجيد منه قليل حتى في شعر الفحول؛ فإن طبيعة الشعر العربي تأباه؛ والذين جاءوا به من العصريين لا يجدون منه إلا قطعًا تعرض في القصيدة وأبياتًا تتفق في بعض معانيها وأغراضها مما يجري على أصله في سائر الشعر طال أو قصر؛ والسبب في ذلك أن القصة إنما يتم تمامها بالتبسط في سردها وسياقة حوادثها وتسمية أشخاصها وذكر أوصافهم وحكاية أفعالهم وما يداخل ذلك أو يتصل به، وإنما بني الشعر العربي في أوزانه وقوافيه على التأثير لا على السرد، وعلى الشعور لا على الحكاية؛ ولا يريدون منه حديث اللسان ولكن حديث النفس؛ فهو في الحقيقة عندهم صناعة روحية يصنعون بها مقادير من الطرب والاهتزاز والفرح والحزن والغضب والحمية والنزعة؛ فلا جرم كان سبيلهم إلى ذلك هو التحديد لا الإطلاق، وضبط المقادير