لا الإسراف؛ إذ كان من شأن هذه الأمور في طبيعة النفس أن ما زاد منها عن مقداره تحول وانقلب في تأثيره، وذلك هو السبب أيضًا في أن هذا الشعر ما لم يكن قائمًا على اختيار اللفظ وصنعة العبارة وتصفيتها وتهذيبها واختيار الوزن للمعنى وإدارة الفكر على ما يلفت من ضروب المجاز والاستعارة ونحوها- سقط ورك بمقدار ما ينقصه من ذلك؛ وليس الشأن في إطالة القصيد؛ فمن الشعراء من نظم رويًّا واحدًا في أربعة آلاف بيت، ومنهم من نظم تفسير القرآن كله؛ ولكن عيب مثل هذا الشعر في العربية أنه شعر ... وما أخمل ابن الرومي على جلالة محله إلا طول قصائده وسياقه الكلام فيها مع ذلك على ما يشبه أسلوب الحكاية وخروجها مخرج المقالة يتحدث بها، فلم تَحْيَ له إلا مقطعات وأبيات ومات سائر شعره وهو حي وميت على السواء، حتى قال فيه صاحب الوساطة:"ونحن نستقرئ القصيدة من شعره وهي تناهز المائة أو تربي أو تضعف، فلا نعثر فيها إلا بالبيت الذي يروق أو البيتين، ثم قد تنسلخ قصائد منه وهي واقفة تحت ظلها جارية تحت رسلها لا يحصل منها السامع إلا على عدد القوافي..".
والعجيب أن بعض الكتاب في عصرنا ممن لا تحقيق لهم في مثل هذه المسائل، يعدون أحسن محاسن ابن الرومي ما هو أقبح عيوبه، وقاتل الله صناعة الكتابة، فكما أنها لملء الفراغ هي كذلك لإفراغ الملآن١..
ثانيًا: صياغة بعض الشعر على أصل التفكير في الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما من لغات الأمم، فيخرج الشعر عربيًّا وأسلوبه في تأدية المعنى أجنبي؛ وأكثر ما يأتي هذا النوع من أمريكا، وأنا أعجب بكثير منه لما فيه من الغرابة والحسن.
وما زالت أجناس الأمم يضيق بعضها بأشياء ويتسع بعضها بأشياء فلسنا مقيدين بالفكر العربي ولا بطريقته، وعلينا أن نضيف إلى محاسن لغتنا محاسن اللغات الأخرى؛ ولكن من غير أن نفسدها أو نحيف عليها أو نبيعها بيع الوكس؛ ومتى كان هذا النوع من الشعر رصينًا محكمًا جيد السبك رشيق المعرض، كان في النهاية من الرقة والإبداع؛ ولم يأت التجديد في هذه اللغة إلا من هذه الناحية، كالذي تراه فيما أخذ عبد الحميد وابن المقفع من نمط الأداء في اللغة الفارسية.
ثالثًا: الانصراف عن إفساد الشعر بصناعة المديح والرثاء، وذلك بتأثير الحرية الشخصية في هذا العصر؛ والمدح إذا لم يكن بابًا من التاريخ الصحيح لم