يدل على سمو نفس الممدوح، بل على سقوط نفس المادح؛ وتراه مدحًا حين يتلى على سامعه، ولكنه ذم حين يعزى إلى قائله! وما ابتليت لغة من لغات الدنيا بالمديح والرثاء والهجاء ما ابتليت هذه العربية؛ ولذلك أسباب لا محل لتفصيلها.
رابعًا: الإكثار من الوصف والإبداع في بعض مناحيه والتفنن في بعض أغراضه الحديثة: وذلك من أسمى ضروب الشعر، لا تتفق الإجادة فيه والإكثار منه إلا إذا كان الشعر حيًّا، وكانت نزعة العصر إليه قوية، وكان النظر فيه صحيحًا؛ ولما وصف الشيخ أحمد الكردي "من شعراء القرن الثاني عشر" السفينة واستهل بهذا الوصف مدح الوزير راغب باشا، عدُّوا ذلك حادثة من حوادث الأدب في عصره فتأمل!
خامسًا: إهمال الصناعات البديعية التي كان يبنى عليها الشعر، فينظم البيت؛ ليكون جناسًا أو طباقًا أو استخدامًا أو تورية ... الخ، أو ضربًا آخر من صناعة العدد والحساب، كالتاريخ الشعري بأنواعه، أو صناعة الحرف، كالمقلوب والمهمل وغيرهما: أو صناعة الفكر، كاللغز والمعمى؛ أو صناعة الوضع كالتشجير والتطريز، إلى ما يلتحق بهذا الباب الذي ذهب أهله فلا يتيسر لأحد من بعدهم أن يجاريهم فيه، وكانت لهم في كل ذلك عجائب استقصيناها بالتدوين في موضعها من "تاريخ آداب العرب"١؛ بيد أن إهمال صناعة البديع شيء وإهمال فن البديع نفسه شيء آخر؛ ومن هنا جاء ما نراه في بعض الشعر الحديث "والشعر المنثور" من الإغراق السخيف الذي لا يقوم على أصل، من التعدي في ضروب الاستعارة، والبعد في المجاز، والإحالة في الوضع، ونحوها مما يرجع إلى الجهل بطبيعة البلاغة، ومما لا نعده إلا ضربًا من الفساد يلتحق بما كان في العصور الماضية وإن كان على الضد منه.
سادسًا: النظم في الشؤون الوطنية والحوادث الاجتماعية، مما يجعل الشعر محيطًا بروح العصر وفكره وخياله، وهو باب لا ينهض به إلا أفراد قلائل، ولا يزال ضعيفًا لم يستحكم؛ وقد قالوا: إن للقاضي الفاضل اثني عشر ألف بيت في مدح الوطن والحنين إليه، ولكن لا أحسب أن بها مائة من نحو ما ينظم في هذا العصر مما أدى بالشعر إلى أن يدخل في باب السياسة ويعد من وسائلها، وفي طرق التربية ويعد من أسبابها.
سابعًا: اسخراج بعض أوزان جديدة من الفارسية والتركية، وهو قليل، جاء
١ انظر الجزء الثالث من "تاريخ آداب العرب" للرافعي.