وتأملت فإذا طفولة متلبدة قد ثبتت في هذا الوجه لتخرج من بين الرجل والطفل مجنونا لا هو طفل ولا رجل.
وتفرست فإذا آثار معركة بادية في هذه الصفحة، قتلاها أفكار المسكين وعواطفه.
وتبينت فإذا رجل مسترخ، متفتر البدن، حائر النفس، كأنه قائم لتوه من النوم فلا تزال في عينه سنة، وكأنه يتكلم من بقايا حلم كان يراه.
وخيل إلي من هذا الخمول في هذا الشاب، أن عليه جوا من تثاؤبه، وأن المكان كله يتثاءب، فتثاءبت ...
فلما رأى ذلك مني ضحك وقال: إن "نابغة القرن العشرين" رجل مغناطسي عظيم؛ فها هو ذا قد ألقى عليك النوم ... وحسبك فخرا أن تكون أستاذه وأخاه وثقته، "فليس على ظهرها اليوم أديب غيري وغيرك ... ".
قلت في نفسي: إنا لله، ما يعتقد الرجل أن على ظهرها مجنونا غيره وغيري، وكأنما ألم بذلك فقال: لست مجنونًا؛ ولكني كنت في البيمارستان ...
قلت: أهو البيمارستان الذي يسمى مستشفى المجاذيب؟
قال: لا؛ إن هذا الذي تسميه أنت، هو هو مستشفى المجاذيب؛ أما الذي سميته أنا فهو مستشفى فقط ...
وذكرت عندئذ أن من المجانين قوما ظرفاء يدخلهم الفساد في عقولهم من ناحية فكرة ملازمة لا تبرح، فلا يكون جنونهم جنونا إلا من هذا الوجه، وسائر أحوالهم كأحوال العقلاء، غير أنهم بذلك طياشون متقلبون، إذا ازدهي لم يطقه الناس من زهوه وكبريائه وتنطعه، كأنه واحد الدنيا في هذ الفكرة، وكأن بينه وبين الله أسرارًا، ويظن عند نفسه أنه أعقل الناس في أرقى طبقات عقله، وما جنونه إلا في هذه الطبقة وحدها.
ومثل هذا لا بد له ممن يستجيب لهذيانه كيما يحرك فيه خفته وطيشه وزهوه، وليكون عنده الشاهد على هذا الوجود الخيالي المبدع الذي لا يوجد إلا في عقله المختل, فإذا هو ظفر بمن يحاسنه، أو يصانعه، أو يجاريه، حسبه مذعنا مؤمنا مصدقا، فلا يدعه من بعدها ويتعلق به أشد التعلق، ويراه كأنه في ملكه ... فيتخذه صفيا وهو يعتقد أنه رقيق، وقد يزعمه أستاذه ليفهمه من ذلك بحساب عقله ... أنه تلميذه.