وليس في تلك القرية غاية لكن فيها عذراء تلتف من جسمها في رداء الجمال الطبيعي الرائع، ولها نفس أشد وعورة مما تنطوي الغابة عليه؛ ففي ظاهرها الرونق الذي يفتن فيجذب إليها، وفي باطنها القوة التي تلتوي فتدفع عنها؛ وهي ابنة عم "الجمل" واسمها "خضراء" وكأن فيها زهو خضرة الربيع، ولم تكن تعشق إلا القوة، فما يزين لها من الرجال إلا ابن عمها، وهي شديدة الإعجاب به، وإنما إعجاب المرأة برجل من الرجال مفتاح من مفاتيح قلبها.
وكانت "خضراء" جاهلة كنساء القرى، بيد أنها تلميذة بارعة للطبيعة التي نشأت فيها وزاولت أعمالها؛ فهي بذلك أقوى نفسًا وأشد مراسًا من الفتيات المتعلمات؛ إذ اتخذت شكلًا ثابتًا من أشكال الحياة، والحياة هي صنعتها هذه الصنعة أو قامتها على هذه الهيئة، على حين أن المتعلمات يمضين أيام النشأة وسن الغريزة في التلقي عن الألفاظ والكتب، وفي توهم الصور المختلفة للاجتماع دون مباشرتها وفي توقي أعمال الحياة بدلًا من مخالطتها؛ فيؤول ذلك منهن إلى قوة في التخيل قلما ترضي الحقيقة الإنسانية المؤلمة حين تصادمها يومًا ما؛ وتتم الواحدة منهن، ولكن باعتبار أنها تمت تلميذة للمدرسة لا امرأة للحياة بما فيها مما يعجب وما لا يعجب.
وكانت خضراء أشبه بدورة النهار: تفتح أجفانها على أشعة الفجر كل يوم، ولا تزال نهارها في دأب وعمل، فنفى ذلك عن أخلاقها ما يجلبه السكون من الخمول والميل إلى العبث والدعابة، وحصلت لها من الحياة حقيقة عرفت منها أن المرأة عامل من أكبر العوامل في النظام الإنساني؛ عليه أن يصبر على الكد والتعب إذا أراد أن يظهر بطبيعته الحقيقية لا بطبيعته المزورة المصنوعة؛ ورأت الرجل يستأثر بجلائل الأعمال ولا يترك للمرأة إلا كما يترك عقرب الساعات لعقرب الثواني في الرقعة التي تجمعها؛ فهذا الصغير لا يبرح يضطرب في "دائرته الضيقة" يهتز من جزء إلى جزء، حتى إذا أتم الدقيقة في ستين هزة كاملة ذهب الأول بفضلها كلها وخطا بها خطوة واحدة: ثم يعود المستضعف المسكين إلى مثل عمله ولا يزال دأبهما وإن أكثرهما عملًا وتبعًا هو أقلهما قيمة وظهورًا؛ ولكن هذا الضعيف المغبون لم ينله ما ناله إلا من كونه هو وحده الذي بني في هذا النظام على فضيلة الصبر والدقة، ليكون أساسًا للآخر؛ فعرفت "خضراء" كيف تقيد طبيعتها من تلقاء نفسها، وتقرها على الصبر والرضا والسكون إلى حظها الطبيعي والاغتباط به؛ إذ كان فضل الرجل على المرأة ليس في كونه أكثر منها فضلًا أو