أسباب فضل، بل في كونها هي أكثر منه حبًّا وتسامحًا وصبرًا وإيثارًا؛ ففضائلها الحقيقية هي التي جعلته الأفضل، كما تجوع الأم لتطعم ابنها!.
ورآها "ابن العمدة" ولما تمض أيام على رجوعه من أوربا، وقد لبث هناك بضع سنين، وكان عهده بالفتاة صغيرة، فوثبت إلى نفسه في وثبة واحدة، ورأى شبابًا وجمالًا وروعة زينتها في قلبه، وسولت له مطمعًا من المطامع، وجعلته يرى ما يرى بمعنى ويفهم منه ما يفهم بمعنى غيره.
وكانت حين رآها واقفة على النيل تملأ جرتها مع نساء من قومها وهن يتعابثن ويتضاحكن، كأن لخصب الأرض في أرواحهن أثرًا باديًا، فإذا ما أقبلن على النهر لشأن من شؤونهن تندت روح الماء على ذلك الأثر فاهتز واهتزت المرأة به، فإن كانت ذات مسحة من جمال رأيت لها رفيفًا كرفيف الزهرة حين يمسحها الندى، وذهبت تتموج في جسمها، وقد حسرت عن ذراعيها، ولمس الماء دمها الجذاب فأرسل فيه تيارًا من العافية والنشاط يتصل منها بقلب من يراها إن هو كان شاعرًا يحس؛ فإن كانت روح الرجل ظمأى ورأى المرأة على هذه الهيئة، فما أحسبه إلا يشرب منها بعينيه شربًا يجد له في قلبه نشوة كنشوة الخمر؛ وكذلك وقعت الفتاة من نفس هذا الفتى فزينها له الخبث الذي فيه أضعاف ما زينها له الجمال الذي فيها، وقذفها القدر إلى قلبه ليخرج من هذا القلب تاريخ جريمة؛ فوقف يتأملها بعين أحد من آلة التصوير لا تفوتها حركة، وسلط عليها فكره وذوقه، وأيقظ لها في نفسه المعاني الراقدة، فنصبت في قلبه عدة من تماثيل الجمال تجسدت في كل واحد منها على شكل كأنما أفرغت فيه إفراغًا.
وكانت نفس ابن العمدة من النفوس الخيالية المتوثبة؛ إذ قامت من نشأتها على أن تطلب فتجاب، وتأمر فتطاع، وتشتهي فتجد؛ وكأنه ما خلق إلا ليستعيد قلبي والديه، وكانا ساذجين لا يعرفان من علم التربية إلا أن للحكومة مدارس للتربية، وموسرين لا يفهمان من معنى الحاجة في هذه الدنيا إلا أنها الحاجة إلى المال، منقطعين من النسل إلا منه، فكأنه لم يولد لهما، بل قد ولدا له.. فله الأمر عليهما من كونه لا أمر لهما عليه؛ وبذلك أسرف له من فضائل الرقة والحنان والإشفاق وما إليها، وهي في نفسها فضائل، ولكن متى أسرف بها الآباء على أولادهم لم تنشئ في أولادهم إلا مما يكون من أضدادها، كالشجر تفرط عليه