للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن عادتي في كتابة هذه الفصول التي تنشرها "الرسالة"١، أن أدع الفصل منها تقلبه الخواطر في ذهني أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، وأترك أمره للقوة التي في نفسي، فتتولد المعاني من كل ما أرى وما أقرأ، وتنثال من ههنا وههنا، ويكون الكلام كأنه شيء حي أريد له الوجود فوجد.

ثم أكتب نهار الجمعة، ومن ورائه ليل السبت وليل الأحد كالمدد من وراء الجيش إذا نالتني فترة أو كنت على سفر أو قطعني عن الكتابة شيء مما يعرض.

وفي أسبوع إبليس "لعنه الله"، مرت الأيام الثلاثة وفيها ثلاثة ألوان: ضجر لا روح فيه، وكسل لا نشاط معه، واضطراب لا مساك له، وأطلت التفكير يوم الخميس، فكانت تعتريني خواطر مضحكة, فيعرض لي مرة أن أصور إبليس امرأة ليكون إبليس الجميل, وتارة أتوهم أن إبليس يريد أن يكون شيخا كبعض رجال الدين الذين لا تزال تطلع على خائنة منهم، ليقال إبليس التقي المصلي, وحينا أظن أنه يريد أن يكون كاتبا مؤلفا شهيرا ليقال إبليس المفكر المصلح, وخطر لي أخيرًا أنه يريد أن يكون حاكمًا ملحدًا فاجرًا، ليكون إبليس التام لا إبليس الناقص.

ولما ذهبت الأيام الثلاثة باطلًا، خيل إلي أن إبليس "أخزاه الله" يسألني عن المقالة: إلى أي شيء انقلبت؟ فشق ذلك علي واغتممت به، غير أني اطمأننت إلى يوم الجمعة وأن وراءه ليلتين. وكانت قد غربت شمس الخميس، فقلت: فلأخرج لأتفرج مما بي، وعسى أن أجمع نفسي للتفكير إذا جلست في الندي، ولعله يقع ما أستوحيه أو ينفتح لي باب في القراءة.

وخرجت، فلم أجاوز الدار حتى ابتدرني من هبط عليه الخبر من القاهرة أن نسيبا لنا من العظماء توفي أخوه اليوم. فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ ضاع يوم الجمعة. إذ لا بد من السفر لتشييع الجنازة وحضور المأتم ثم قلت: لعل في هذا السفر استجماما ونشاطًا فأستدرك الأسبوع كله في يومين، وإنما الاستكثار بالقوة لا بالزمن، ولا يد لإبليس في الموت والحياة، فليس إلا اطراحه وقلة المبالاة به، وإنما هي خطرات من وساوسه.

وأصبحت في القاهرة، ومشيت في الجنازة قبل الظهر مسيرة ساعة كاملة؛


١ مجلة الرسالة، وكل مقالات هذا الجزء والجزء الأول كتبت لها ونشرت فيها، إلا فصولا قليلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>