للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانت الشمس ساطعة تتلألأ، وأنا مثقل بثياب الشتاء وكنت أتوقع أن يكون اليوم من أيام الريح المجنونة، فلما انتهينا إلى الصحراء، هبت الريح هبوبًا لينا، ثم زفت فكانت إلى الشدة ما هي؛ ولكنها ماضية تسفي الرمل في الأعين فيأخذ في أجفاني أكال وتهييج، وليس معي شيء أتقيها به؛ غير أني شغلت فكري برؤية المقابر، وجعلتها في نفسي كالمقالة المكتوبة سطرا وراء سطر، وقلت: ههنا الحقيقة في أول تفسيرها، وغير المفهوم في الحياة يفهم هنا.

ثم رجعت مندى الجسم بالعرق وعلي نضح منه، وكان القميص من الصوف، وبصدري أثر من النزلة الشعبية، وإذا تندى الصوف وجب نزعه وإلا فهي العلة ما منها بد.

ثم لم تكن إلا ساعة حتى انخرقت الريح وجعلت تعصف وبرد الجو، فأيقنت أنه الزكام، وقلت في نفسي: هذا باب على حدة، والمقالة ذاهبة لا محالة، فسيتخلف الذهن ويتبلد؛ والشيطان كريم في الشر يعطي من غير أن يسأل.

وثقل ذلك علي فكان الغم به علة جديدة، بيد أني لم أزل أرجو الفرصة في أحد اليومين: السبت والأحد. وقلت: إن من البلاء الفكر في البلاء، ولعل من السلامة الثقة بالسلامة؛ فإذا نبهت العزيمة رجوت أن يتغلغل أثرها في البدن كله فيكون علاجا في الدم يحدث به النشاط ويرهف منه الطبع وتجم عليه النفس. وفي قوة العصب كهربائية لها عملها في الجسم إذ أحسن المرء بعثها في نفسه وأحكم إفاضتها وتصريفها على طريقة رياضية؛ ولهي الدواء حين يعجز الدواء، وهي القوة حين تخذل القوة.

فاعتزمت وصممت، واحتلت على الإرادة، وتكثرت من أسباب الثقة وترصدت لها السوانح العقلية التي تسنح في النفس، وقلت لإبليس: اجهد جهدك، فما تذهب مذهبا إلا كان لي مذهب. ولكن اللعين أخطر في ذهني قول القائل يسخر فيه من ذلك الكاتب البغدادي١.

لو قيل كم خمس وخمس لاغتدى ... يوما وليلته يعد ويحسب

ويقول معضلة عجيب أمرها ... ولئن فهمت لها لأمري أعجب


١ قيل هذا الشعر في وصف مروان الكاتب، وهو رجل من بغداد، وكان كاتبا على الخراج فسخر منه الشاعر بهذا الأسلوب البديع.

<<  <  ج: ص:  >  >>