للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هي طبيعة الألم الذي يفاجئ الإنسان من مكمن لذته وموضع سروره، فيسلبه نوعًا من الحياة بطريقة سلب الحياة نفسها، ويأخذ من قلبه شيئًا مات فيدفنه في قبر الماضي، يكون ألمًا؛ لأن فيه المضض، وكآبة؛ لأن فيه الخيبة، وذهولًا؛ لأن فيه الحسرة؛ وتتم هذه الثلاثة الهموم بالضيق الشديد في النفس؛ لاجتماع ثلاثتها على النفس؛ فإذا المسكين مبغوت كأن الآلام أطبقت عليه من الجهات الأربع، فقلبه منها صدوع صدوع..

وجعلت أعذل صاحبنا فلا يعتذِل، وكلما حاولت أن أثبت له وجود الصبر كنت كأنما أثبت له أنه غير موجود؛ ثم تنفس وهو يكاد ينشق غيظًا وقال: لماذا رحلت؟ لماذا؟

قلت: أنت أذللت جمالها بهذا الأسلوب الذي ترى أنك تعز جمالها به، وقد اشتددت عليها وعلى نفسك، وتعنَّتَّ على قلبك وقلبها؛ كانت ظريفة المذهب في عشقها وكنت خشنًا في حبك، وسوغتك حقًّا فرددته عليها، وتهالكت وانقبضت أنت، ورفعت قدرك عن نفسها تحببًا وتوددًا فخفضت قدرها عن نفسك من اطراح وجفاء، واستفرغت وسعها في رضاك فتغاضبت، ونضت عن محاسنها شيئًا شيئًا تسأل بكل شيء سؤالًا فلم تكن أنت من جوابها في شيء..

ومن طبع المرأة أنها إذا أحبت امتنعت أن تكون البادئة، فالتوت على صاحبها وهي عاشقة، وجاحدت وهي مقرة؛ إذ تريد في أن تتحقق أنها محبوبة، وفي الثانية أن يقدم لها البرهان على أنها تستحق المهاجمة، وفي الثالثة هي تريد ألا تأخذها إلا قوة قوية فتمتحن هذه القوة، ومع هذه الثلاث تأبى طبيعة السرور فيها والاستمتاع بها إلا أن يكون لهذا السرور وهذا الامتناع شأن وقيمة، فتذيق صاحبها المر قبل الحلو؛ ليكبر هذا بهذا.

غير أنها إذا غلبها الوجد وأكرهها الحب على أن تبتدئ صاحبها، ثم ابتدأت ولم تجد الجواب منه، أو لم يأتِ الأمر فيما بينها وبينه على ما تحب، فإن الابتداء حينئذ يكون هو النهاية، وينقلب الحب عدو الحب؛ وأنا أعرف امرأة وضعتها كبرياؤها في مثل هذه الحالة وقالت لصاحبها: سأتألم ولكن لن أغلب، فكان الذي وقع واأسفاه -أنها تألمت حتى جنت، ولكن لم تغلب١..

قال: فما بال هذه؟ أما تراها تبتدئ كل يوم رجلًا؟


١ انظر قصة هذه الحبيبة التي تألمت حتى جنت ص٧٣-١٠١ "حياة الرافعي".

<<  <  ج: ص:  >  >>