كثيرة من عواطفه، وكأنما ينطوي على نفوس مختلفة تجمع الإنسانية من أطرافها، وبذلك خلق ليفيض من هذه الحياة على الدنيا، كأنما هو نبع إنساني للإحساس يغترف الناس منه ليزيد كل إنسان معاني وجوده المحدود ما دام هذا الوجود لا يزيد في مدته، ثم ليرهف الإنسان بذلك أعصابه فتدرك شيئًا مما فوق المحسوس، وتكننه طرفًا من أطراف الحقيقة الخالدة التي تتسع بالنفس وتخرجها من حود الضرورات الضيقة التي تعيش فيها لتصلها بلذات المعاني الحرة الجميلة الكاملة؛ وكأن الشعر لم يجئ في أوزان إلا ليحمل فيها نفس قارئه إلى تلك اللذات على اهتزازات النغم؛ وما يطرب الشعر إلا إذا أحسسته كأنما أخذ النفس لحظة وردها.
والشاعر الحقيق بهذا الاسم -أي الذي يغل بعلى الشعر ويفتتح معانيه ويهتدي إلى أسراره ويأخذ بغاية الصنعة فيه- تراه يضع نفسه في مكان ما يعانيه من الأشياء وما يتعاطى وصفه منها، ثم يفكر بعقله على أن عقل هذا الشيء مضافًا إليه الإنسانية العالية، وبهذا تنطوي نفسه على الوجود فتخرج الأشياء في خلقة جميلة من معانيها وتصبح هذه النفس خليقة أخرى لكل معنى داخلها أو اتصل بها؛ ومن ثم فلا ريب أن نفس الشاعر العظيم تكاد تكون حاسة من حواس الكون.
ولو سئلت أزمان الدنيا كيف فهم أهلها معاني الحياة السامية وكيف رأوها في آثار الألوهية عليها، لقدم كل جيل في الجواب على ذلك معاني الدين ومعاني الشعر.
وليست الفكرة شعرًا إذا جاءت كما هي في العلم والمعرفة، فهي في ذلك علم وفلسفة، وإنما الشعر في تصوير خصائص الجمال الكامنة في هذه الفكرة على دقة ولطافة كما تتحول في ذهن الشاعر الذي يلونها بعمل نفسه فيها ويتناولها من ناحية أسرارها.
فالأفكار مما تعانيه الأذهان كلها ويتواطأ فيه قلب كل إنسان ولسانه، بيد أن فن الشاعر هو فن خصائصها الجميلة المؤثرة، وكأن الخيال الشعري نحلة من النحل تلم بالأشياء لتبدع فيها المادة الحلوة للذوق والشعور، والأشياء باقية بعد كما هي لم يغيرها الخيال، وجاء منها بما لا تحسبه منها؛ وهذه القوة وحدها هي الشاعرية.
فالشاعر العظيم لا يرسل الفكرة لإيجاد العلم في نفس قارئها حسب، وإنما هو يصنعها ويحذر الكلام فيها بعضه على بعض، ويتصرف بها ذلك التصرف ليوجد بها العلم والذوق معًا؛ وعبقرية الأدب لا تكون في تقرير الأفكار تقريرًا علميًّا بحتًا، ولكن في إرسالها على وجه من التسديد لا يكون بينه وبين أن يقرها في مكانها من النفس الإنسانية حائل. وكثيرًا ما تكون الأفكار الأدبية العالية التي