يلهمها أفذاذ الشعر والكتاب هي أفكار عقل التاريخ الإنساني، فلا تنفصل عنهم الفكرة في أسلوبها البياني الجميل حتى تتخذ وضعها التاريخي في الدنيا، وتقوم على أساسها في أعمال الناس، فتتحقق في الوجود ويعمل بها؛ وهذا طرف مما بين الأدب العالي وبين الأديان من المشابهة.
ومتى نزلت الحقائق في الشعر وجب أن تكون موزونة في شكلها كوزنه، فلا تأتي على سردها ولا تؤخذ هونًا كالكلام بلا عمل ولا صناعة، فإنها إن لم يجعل لها الشاعر جمالًا ونسقًا من البيان يكون لها شبيهًا بالوزن، ويضع فيها روحًا موسيقية بحيث يجيء الشعر بها وله وزنان في شكله وروحه -فتلك حقائق مكسورة تلوح في الذوق كالنظم الذي دخلته العلل فجاء مختلًا قد زاغ أو فسد.
والخيال هو الوزن الشعري للحقيقة المرسلة، وتخيل الشاعر إنما هو إلقاء النور في طبيعة المعنى ليشف به، فهو بهذا يرفع الطبيعة درجة إنسانية، ويرفع الإنسانية درجة سماوية؛ وكل بدائع العلماء والمخترعين هي منه بهذا المعنى، فهو في أصله ذكاء العلم، ثم يسمو فيكون هو بصيرة الفلسفة، ثم يزيد سموه فيكون روح الشعر؛ وإذا قلبت هذا النسق فانحدرت به نازلًا كما صعدت به، حصل معك أن الخيال روح الشعر، ثم ينحط شيئًا فيكون بصيرة الفلسفة، ثم يزيد انحطاطًا فيكون ذكاء العلم، فالشاعر كما ترى هو الأول إن ارتقت الدنيا، وهو الأول إن انحطت الدنيا؛ وكأنما إنسانية الإنسان تبدأ منه.
إذا قررنا للشعر هذا المعنى وعرفنا أنه فن النفس الكبيرة الحساسة الملهمة حين تتناول الوجود من فوق وجوده في لطف روحاني ظاهر في المعنى واللغة والأداء -وجب أن نعتبر نقد الشعر باعتبار مما قررناه، وأن نقيمه على هذه الأصول؛ فإن النقد الأدبي في أيامنا هذه -وخاصة نقد الشعر- أصبح أكثره ما لا قيمة له، وساء التصرف به، ووقع الخلط فيه، وتناوله أكثر أهله بعلم ناقص، وطبع ضعيف، وذوق فاسد، وطمع فيه من لا يحصل مذهبًا صحيحًا، ولا يتجه لرأي جيد، حتى جاء كلامهم وإن في اللغو والتخليط ما هو خير منه وأخف محملًا، فإنك من هذين في حقيقة مكشوفة تعرفها تخليطًا ولغوًا، ولكنك من نقد أولئك في أدب مزور ودعوى فارغة وزوائد من الفضول والتعسف يتزيدون بها للنفخ والصولة وإيهام الناس أن الكاتب لا يرى أحدًا إلا هو تحت قدرته ... على أن جهد عمله إذا فتشته واعتبرت عليه ما يخلط فيه، أنه يكتب حيث يريد النقد أن يحقق، ويملأ فراغًا من الورق حيث يقتضيه البحث أن يملأ فراغًا من المعرفة.