وقد قلنا في كتابنا "تحت راية القرآن": إن أستاذ الآداب يجب أن يجمع إلى الإحاطة بتاريخها وتقصي موادها ذوقًا فنيًا مهذبًا مصقولًا، وليس يمكن أن يأتي له هذا الذوق إلا من إيداع في صناعتي الشعر والنثر، ثم يجمع إلى هذين:"أي الإحاطة والذوق" تلك الموهبة الغريبة التي تلف بين العلم والفكر والمخيلة فتبدع من المؤرخ الفيلسوف الشاعر العالم شخصًا من هؤلاء جميعًا هو الذي نسميه الناقد الأدبي.
هذه هي صفات الناقد في رأينا؛ فانظر أين تجده بين هؤلاء الأساتذة المختصرين ... في أدبهم، المطولين ... في ألقابهم، وإنهم ليتعاطون النقد وليس لهم وسائله إلا ما كان ضعفة وقلة وإدبارًا، وقد فاتهم ما لا تحمله أقدارهم ولا تبلغه قواهم، وجهلوا أن الناقد الأدبي إنما يلقي درسًا عاليًا لا يدل فيه على العيوب الفنية إلا بإظهار المحاسن التي تقابلها في أسمى ما انتهى إليه الفن من آثار تاريخه، فيكون النقد تهذيبًا وتخليصًا لفنون الأدب كلها؛ وهو بهذه الطريقة يجلوها على الناس ويبدع فيها ويزيد في مادتها ويسهلها على القراء ويحصلها لهم تحصيلًا لا يبلغونه بأنفسهم، ويعطيهم من كل ضعيف ما هو قوي، ومن كل قوي ما هو أقوى.
ورأيناهم في نقد الشعر لا يزيدون على أن يعلقوا على كلام الشاعر، فيجيء عملهم في الجملة كأنه تصنيف من هذا الشعر وشرح له وتصفح على بعض معانيه؛ وبهذا يرجع الشاعر وإنه هو المتصرف في ناقده يديره كيف شاء، ويجيء هذا الناقد زائدًا متطفلًا، فتأتي كتابته وإنها لضرب من سخرية المنقود بناقده، ويصبح وضع الكلام على العكس، فالشاعر المنقود لم يتكلم ولكنه أبان قصور الناقد وجهله، فهو الناقد وإن سكت، وذاك هو المنقود وإن تكلم.
وهذا المتعلق على أخبار الشاعر وشعره كتعلق التلخيص على أصله المطول والشرح على متنه الموجز، إنما هو كاتب يجد من ذلك مادة إنشائية فيتصرف بها ليكتب؛ ولا يراد من النقد أن يكون الشاعر وشعره مادة إنشاء، بل مادة حساب مقدر بحقائق معينة لا بد منها؛ فنقد الشعر هو في الحقيقة علم حساب الشعر، وقواعده الأربع التي تقابل الجمع والطرح والضرب والقسمة: هي الاطلاع والذوق والخيال والقريحة الملهمة.
وثم ضرب آخر من تعلق الضعفاء، يتناول الشاعر باعتباره رجلًا له موضعه من الناس ومنزلة من الحياة، ثم لا يعدو ذلك* وهو تزوير للمؤرخ بجعله ناقدًا،
* لم نذكر في هذه المقالة أمثلة ولم نعين أسماء حتى لا يمتد الكلام فتخرج المقالة إلى أن تكون كتابا، ولكنك إذا قرأت الشعر وما يكتب في نقده، والمحاضرات التي تلقى عن الشعراء فقد وجدت الأمثلة والأسماء.