وتزوير للناقد برده مؤرخًا؛ على أن هذا لا بد منه منه في النقد الصحيح، ولكنه لا يقوم بنفسه ولا تنفذ به بصيرة النقد؛ إذ الشاعر لم يكن شاعرًا بأنه رجل من الناس وحي في الأحياء وعمر من الحوادث المؤرخة، ولكن بموضوعه من أسرار الحياة وصلة نفسها بها وقدرة هذه النفس على أن تنفذ إلى حقائق الطبيعة في كائناتها عامة، وفي إنسانها خاصة، ثم بقدرة مثل هذه في النفاذ إلى أسرار اللغة الشعرية التي هي الوجود المعنوي لكل ذلك، والتصرف بها على طبقات معانيه حتى لا تقصر عن الغاية ولا تقع دون القصد، فإن الشعر إن هو إلا ظهور عظمة النفس الشاعرة بمظهرها اللغوي، ولئن كان في نقد الشعر تاريخ لا يتم النقد إلا به، فهو تاريخ الشعر في نفس قائله، ثم تاريخ هذه النفس في معاني الشعر من عصرها، ثم أدب هذا الشاعر من الوجود الأدبي للغة التي نظم بها؛ وذلك لا بد أن يقع فيه تاريخ الشاعر نفسه محصلًا من نواحيه في جهات الحياة، متعمقًا فيه بالاستقصاء، متغلغلًا إليه بالنقد ...
وإن لنا رأيًا بسطناه مرارًا، وهو أنه لا ينبغي أن يعرض لنقد الشاعر والكلام عنه إلا شاعر كبير يكون ذا طبيعة في النقد، أو كاتب عظيم يكون ذا طبيعة في الشعر؛ أي لا بد من الأدب والشعر معًا لنقد الشعر وحده فيأتي الكلام فيه من العلم والذوق والإحساس والإلهام جميعًا، فيتبين الناقد وجوه النقص الفني، ويعرف بما نقصت وماذا كان ينبغي لها وما وجه تمامها، ثم يعرف من الكمال الفني مثل ذلك، ويحس على الحالتين بالمعاني التي أحسها الشاعر حين انتزع شعره منها، وما كان يتخالجه وقتئذ من الفكر ويتمثل له من الصور المعنوية التي ألهمته إلهامها؛ فإن المعاني المكتوبة هي شعر الشاعر، ولكن تلك المعاني المحسوسة هي شعر الشعر، وإنما يوقف عليها بالتوهم والاسترسال إلى ما وراء الطبيعة من بواعثه، وما تموجت به روح الشاعر عند عمله، وما عرضت لها به طبائع المعاني؛ وهذا كله لا يحسه الناقد إن لم يكن شاعرًا في قوة ما ينقده أو أقوى منه طبيعة شعر.
والنقد إنما هو إعطاء الكلام لسانًا يتكلم به عن نفسه كلام منهم في محكمة؛ ليقيم أو يزيح شبهة أو يقر حقيقة أو يبسط معنى أو يوجه علة أو يكشف خافيًا أو