يثبت نقيصة أو يظهر إحسانًا؛ وبالجملة فهو نقص السيئة والحسنة، ووقوع أدلة العلم والفن والذوق مواقعها، وتكلم الكلام بذات نفسه ما تنكر منه وما تستجيد؛ والشاعر. والناقد يلتقيان جميعًا في القارئ فوجب من ثم أن يكون الناقد قوة تكشف قوة مثلها أو دونها؛ ليصحح فن فنًّا مثله أو يقره أو يزيد عليه فضل بيان ومزية فكر؛ وبهذا يصبح القارئ كالسائح الذي معه الدليل وأمامه المنظر، أي معه التاريخ الناطق وبإزائه التاريخ الصامت. وإذا كان الشاعر وشعره إنما هما النفس الممتازة وحوادثها ومعاني الحياة فيها، فليس يتجه أن يكون الناقد تامًا إلا بنفس من نوعها في دقة الحس ولطف النظر والاستشفاف وقوة التأثر بمعاني الحياة وسمو الإلهام والعبقرية، وبذلك يجيء النقد الصحيح بيانًا خالصًا منخولًا كأنه شرح نفس لنفس مثلها.
وليس الأنف هو الذي ينقد الوردة العطرة الفياحة، وإنما تنقدها الحاسة التي في الأنف، وناقد الشعر إن لم يكن شاعرًا فهو أنف صحيح التركيب، ولكن بالجلد والعظم دون تلك الحاسة التي هي روح العصب المنبث في هذا التركيب والمتصل بما وراءه من أعصاب الدماغ، فهذا الأنف ... يستطيع أن يتناول الوردة، ولكن يحس غليظ محقته الآفة كما يتناول حجرًا أو حديدًا أو خشبًا أيها كان، فالوردة عنده شيء من الأشياء يمتاز باللين ويختص بالنعومة ويسطع بالرونق ويزهو باللون، ويذهب يتكلم في هذا كله، وهذا كله في الوردة، ولكنه ليس الوردة.
ومتى كان البحث هو البحث في السماء وأفلاكها وأجرامها فلا يستقل به إلا الناظر المركب أي الذي معه عينه وتلسكوبه وعلمه جميعًا، إن نقص من ذلك فبقدر نقصانه يكون ضعفه، وإن تم فبقدر تمامه يكون وفاؤه؛ ولو أمكن أن ينفصل الشاعر من شعره فيقطع ما بينه وبين المعاني من نسبه نفسه، ويبتعد عن الشعر ليراه جديدًا عليه ويميزه من كل جهاته -لكان هو الناقد؛ فناقد الشعر هو الشاعر نفسه، ولكن في وضع أتم وأوفى، وحالة أبين وأبصر، أي كأنه الشاعر نفسه منقحًا تامًا بغير ضعف ولا نقص.
ومن أجل ذلك ترى من آية النقد البديع المحكم إذا قرأته ما يخيل إليك أن الشعر يعرض نفسه عليك عرضًا ويحصل لك أمره ويبين حالته في ذهن شاعره.
وكيف توافى وائتلف، وكيف انتزعه الشاعر من الحياة، وما وقع فيه من قدر الإلهام، وما أصابه من تأثير الإنسان وما اتفق من خظ الطبيعة والأشياء، وبالجملة يورد النقد عليك ما ترى معه كأن حركة الدم والأعصاب قد عادت مرة أخرى إلى الشعر.