ألا وإن شعرنا العربي الجميل قد أصبح اليوم في أشد الحاجة إلى من يعلم القارئ كيف يذوقه ويتبينه ويخلص إلى سر التأثير فيه، ويخرجه مخرجًا سريًّا في أنغامه وألحانه ويأتي به من نفس شاعره ومن نفسه جميعًا؛ فقوة التمييز في هذا كله على تسديد وصواب هي التي يعطيها الناقد لقرائه؛ والشعر فكر وقراءته فكر آخر، فإن قصر هذا عن أن يبلغ ذاك ليتصل به ويتغلغل فيه فلابد للمفكرين من صلة فكرية هي كتابة الناقد الذي هو من ناحية كمال للطبيعة الناقصة، ومن ناحية أخرى شرح للطبيعة الكاملة، ومن ناحية ثالثة هو بذوقه وفنه قانون الانتظام الدقيق الذي يبين به ما استقام في الكلام وما اعوجَّ.
وطريقتنا نحن في نقد الشعر تقوم على ركنين: البحث في موهبة الشاعر، وهذا يتناول نفسه وإلهامه وحوادثه؛ والبحث في فنه البياني، وهو يتناول ألفاظه وسبكه وطريقته، وسنقول فيهما معًا:
فأما الكلام في فن الشعر، فالمراد بالشعر -أي نظم الكلام- هو في رأينا التأثير في النفس لا غير، والفن كله إنما هو هذا التأثير، والاحتيال على رجة النفس له واهتزازها بألفاظ الشعر ووزنه وإدارة معانيه وطريقة تأديتها إلى النفس، وتأليف مادة الشعور من كل ذلك تأليفًا متلائمًا مستويًا في نسجه لا يقع فيه تفاوت ولا اختلال، ولا يحمل عليه تعسف ولا استكره؛ فيأتي الشعر من دقته وتركيبه الحي ونسقه الطبيعي كأنما يقرع به على القلب الإنساني ليفتح لمعانيه إلى الروح؛ والشعر العربي إذا تمت له في صناعته وسائل التأثير وأحكم من كل جهاته، كان أسمى شعر إنساني فتراه يطرد بألفاظه الجميلة السائغة وكأنه لا يحمل فيها معاني، بل يحمل حركات عصبية ليس بينها وبين أن تنساب في الدم حائل، فما يكون إلا أن يغمرك بالطرب ويهزك من أعماق النفس ويورد عليك في نفحة الروح ما إن تدبرته في نفسك وأفصحت عنه شعورك رأيته في حقيقته وجهًا من نسيان الحياة الأرضية والانتقال إلى حياة أخرى من السرور والاهتياج والألم والشجو يحياها الدم التأثر وحده غير مشارك فيها إلا من القلب.
والذين يجهلون ذلك من أمر الشعر العربي في مزاجه الخاص -فلا يعتبرونه حيًا ذا طباع وخصائص لابد من مراعاتها والنزول على حكمها والتلقي بما يوافقها كما لا بد من أشباه ذلك لامرأة جميلة -تراهم يخلون بقوانين صناعته البيانية وينزلون ألفاظه دون منازلها ويرسلون معانيه على غير طريقتها الشعرية ويبتلونه بفضول كثيرة هي كالآفات والأمراض، فيأتون بنظم تقرؤه إذا قرأته وأنت تتلوى