كأنما يقرع على قلبك بقبضة يد عليه بحجر ... وقد فشا هذا النوع من الشعر في هذه الأيام وأصبح لما فسد من ذوق الأدب وما التاث من أمر اللغة وما اعوج من طرق الفلسفة وما عمت به البلوى من التقليد الأوروبي، وكثيرًا ما رأيت القصيدة من هذا الشعر كامرأة سلخ وجهها ووضعت لها جلدة وجه ميت ... والناظم من هؤلاء لا يصرف الشعر على حدوده النفسية ولا يحكمه فيها، بل تصرفه الألفاظ كيف اتفقت له على وجوهها الملتوية، وتسوسه المعاني سياسة عمياء فقدت باصرتيها معًا، ويحسبون كلامهم من النور العقلي، ولكنه النور في قطعه ثمانين ألف ميل في الثانية، فلا يكاد يقال في هذا العالم، حتى يخرج منه وينسى ويلحق باللانهاية ...
وهذا الضرب من الصناعة الفاسدة هو بعينه ذلك النوع الصناعي الذي أفسد الشعر منذ القرن الخامس، غير أن القديم كان فسادًا في الألفاظ يجعلها كلها أو أكثرها محالًا من الصنعة، والحديث جاء فسادًا في المعاني يجعلها كلها أو أكثرها محالًا من البيان.
ويزعم أصحاب هذا الشعر أنهم فلاسفة، ولكنهم كذلك في سرقة الفلاسفة لا غير ... ولو علموا لعلموا أن ألفاظ الشعر هي ألفاظ من الكلام يضع الشعر فيها الكلام والموسيقى معًا، فتخرج بذلك من طبيعة اللغة القائمة على تأدية المعنى بالدلالة وحدها إلى طبيعة لغة خاصة أرقى منها تؤدي المعنى بالدلالة والنغم والذوق، فكل كلمة في الشعر تجتلب لمعناها من تركيبه، ثم لموضعها من نسقه، ثم لجرسها في ألحانه؛ وذلك كله هو الذي يجعل للكلمة لونها المعنوي في جملة التصوير بالشعر؛ وما يمر الشاعر العظيم بلفظة من اللغة إلا وهي كأنها تكلمه تقول: دعني أو خذني.
وكما أنه لا بد للأزهار من جو الأشعة، كذلك لابد للمعاني الشعرية من جو اللغة البيانية، فالبيان إنما هو أشعة معاني القصيدة؛ وقد يحسبون أن الصناعة البيانية صناعة متكلفة لا شأن لها في جمال الشعر ودقة التعبير، وما ننكر أن من البيان الجميل أشياء متكلفة، ولكنها تنزل من أساليب البلاغة العالمية منزلة كمنزلة الظرف والدل والخلاعة في الحبيبة الجميلة.
إن هذه الفنون ليست من جمال الخلقة والتركيب في المرأة، ولكنها متى ظهرت في الجمال الفاتن أصبح بدونها -وهو جميل دائمًا- كأنه غير جميل أحيانًا.
هنا صناعة هي روح الحسن في الحياة، وصناعة مثلها هي روح الحسن