للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحيانًا في البلاغة*، وما التراكيب البيانية في مواضعها من الشعر الحي إلا كالملامح والتقاسيم في مواضعها من الجمال الحي؛ وكثيرًا ما يخيل إلي حين أتأمل بلاغة اللفظ الرشيق إلى جانب لفظ جميل في شعر محكم السبك، أن هذه الكلمة من هذه الكلمة كحب رجل متألق يتقرب من حب امرأة جميلة، وعطف أمومة على طفولة، وحنين عاطفة لعاطفة، إلى أشباه ونظائر من هذا النسق الرقيق الحساس؛ فإذا قرأت في شعر أصحابنا أولئك رأيت من لفظ كالشرطي أخذ بتلابيب لفظ كالمجرم ... إلى كلمتين هما معًا كالضارب والمضروب ... إلى همج ورعاع وهرج ومرج وهيج وفتنة؛ أما القافية فكثيرًا ما تكون في شعرهم لفظًا ملاكمًا ... ليس أمامه إلا رأس القارئ.

وكما يهملون اختيار اللفظ والقافية يتسهلون في اختيار الوزن الملائم لموسيقية الموضوع فإن من الأوزان ما يستمر في غرض من المعاني ولا يستمر في غيره؛ كما أن من القوافي ما يطرد في موضوع ولا يطرد في سواه، وإنما الوزن من الكلام كزيادة اللحن على الصوت: يراد منه إضافة صناعة من طرب النفس إلى صناعة الفكر، فالذين يهملون كل ذلك لا يدركون شيئًا من فلسفة الشعر ولا يعلمون أنهم إنما يفسدون أقوى الطبيعتين في صناعته؛ إذ المعنى قد يأتي نثرًا فلا ينقصه ذلك عن الشعر من حيث هو معنى، بل ربما زاده النثر إحكامًا وتفصيلًا وقوة بما يتهيأ فيه من البسط والشرح والتسلسل، ولكنه في الشعر يأتي غناء، وهذا ما لا يستطيعه النثر بحال من الأحوال.

فإذا لم يستطع الشاعر أن يأتي في نظمه بالروي المونق والنسج المتلائم والحبك المستوي والمعاني الجيدة التي تخلص إلى النفس خلوص طبيعة إلى طبيعة تمازجها، ورأيته يأتي بالشعر الجافي الغليظ والألفاظ المستوخمة الرديئة والقافية القلقة النافرة والمجازات المتفاوتة المضطربة والاستعارات البعيدة الممسوخة -فاعلم أنه رجل قد باعده الله من الشعر وابتلاه مع ذلك بزيغ الطبيعة وسرف التقليد، فما يجيء الشعر على لسانه في بيت إلا بعد أن يجيء اللغو على لسانه في مائة بيت أو أكثر أو أقل.

ذلك قولنا في فن الشاعر، أما الكلام في موهبته التي بها صار شاعرًا وعلى


١ لنا كلام طويل في فلسفة الأسلوب البياني سنذكره إن شاء الله في كتابنا الجديد "أسرار الإعجاز".
[قلت: واقرأ حديثنا عن "أسرار الإعجاز" في كتاب "حياة الرافعي" ص ٢٨٩] .

<<  <  ج: ص:  >  >>