للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مقدارها يكون مقداره واتصال أسبابه أو انقطاعها من الشعر، فذلك باب لا يمكن بسط المعنى فيه ولا تحصيل دقائقه إلا إذا صورت روح الشاعر الدقيق المعجز ووزنت في ميزانها الإلهي وعرف نقصها إن نقصت وتمامها إن تمت، وأمكن تتبع مواقعها من أسرار الأشياء ومساقطها من منازل الإلهام، وهذا ما لا سبيل إليه إلا بالتوهم النفسي، فإن الأرواح القوية يلمح بعضها بعضًا، وقد تكون لمحة الروح الشاعرة لروح مثلها هي تدبرها ووزنها وإدراك ما تنطوي عليه كما ترى من وضع النور بإزاء النور، فإن هذا الوضع هو نفسه وزن لكليهما في ميزان البصر دون أن يكون ثمة موازنة إلا في التألق والشعاع؛ فهما في هذه الحالة نوران يضيئان، ولكنهما أيضًا كلمتان يبينان عما فيهما من الأكثر والأقل.

لهذا قلنا: إن الشاعر لا يستع لنقده ولايحيط به إلا من كانت له روح شعرية تكافئه في وزنها أو تربى على مقداره؛ فإن هناك قوى روحية لإدراك الجمال وخلقه في الأشياء خلقًا هو روح الشعر وروح فنه، وقوى أخرى لصلة العواطف بالفكر صلة هي سر الشعر وسر فنه، وقوى غير هذه وتلك لتحويل ما يخالج النفس الشاعرة تحويل المبالغة التي هي قوة الشعر وقوة فنه؛ وبمجموع هذه القوى كلها تمتاز روح الشاعر من غير الشاعر: أما ما تمتاز به هذه الروح من روح شاعرة مثلها فهو ما يكون من تفاوت المقادير التي يهبها الله وحده، فيخص شاعرًا بالزيادة وآخر بالنقص، ويهب أسبابها التي تكون عنها فيوسع لواحد ويضيق على الآخر؛ وإذا تمت تلك القوى واستحكمت تهيأ منها للشاعر جهاز عصبي خالص هو جهاز التوليد لا يمر به معنى إلا تجسد فيه بصورة غير صورته.

وقد استوفينا الكلام على ذلك في مقالنا "سر النبوغ في الأدب". وهو لا غير سر العبقرية.

فأمثل الطرق في نقد موهبة الشاعر إدراكها بالروح الشعرية القوية من ناحية إحساسها والنفاذ إلى بصيرتها، واكتناه مقادير الإلهام فيها، وتأمل آثارها في الفرح والحزن بأشجى وأرق ما تهتاج في النفس الحساسة، ومعرفة قوة التحويل في عواطفها للمعاني الإنسانية والطبيعة تحويلًا يجعل القوة أقوى مما تبلغ، والحقيقة أكبر مما تظهر، وتأتي بكل شيء ومعه شيء؛ وليس ينتهي الناقد إلى ذلك إلا بالبحث في الأغراض أي "المواضيع" التي نظم فيها الشاعر وما يصله بها من أمور عيشه وأحوال زمنه وكيف تناولها من ناحيته ومن ناحيتها وماذا أبدع، ثم في أي

<<  <  ج: ص:  >  >>