المبدأ الذي ينتصرون له، أقوياء في قوة الإيمان الذي يعملون به، أجلاء في جلال الوطن الذي يحيون ويموتون في سبيله.
وكانوا في الشعب هم خيال الأمة العامل المدرك، وشعورها الحي المتوثب، وقواها البارزة من أعماقها، وأملها الزاحف ليقهر الصعوبة.
يفادون بأنفسهم الغالية ويؤثرون عليها، وليس في أحد منهم ذاته ولا أغراض شخصه، فما أجل وما أعظم! وما أروع وما أسمى! أيتها الحياة! هل فيك أشرف من هذه الحقيقة إلا حقيقة النبوة؟
قال: وكان أخي هو زعيم هؤلاء الطلبة في مدينتنا؛ قوي على الزعامة وفي بها؛ يحمل قلبا كالجمرة الملتهبة، وله صوت بعيد تحسب الرعد يقعقع به. إذا مشى في جهاده كان كل ما على الأرض ترابا تحت قدميه، لا يمشي إلا محتقرا هذه الدنيا وما فيها، غير مقدس منها إلا دينه ووطنه؛ وسلاحه أن كل شيء فيه هو سلاح على الظلم وضد الظلم.
وكان في ذلك اليوم يقود "المظاهرة"، وحوله جماعة من خالصته وصفوة إخوانه، يمشون في الطليعة تحت جو متقد كأن فيه غضب الشباب، عنيف كأنما امتزج به السخط الذي يفورون به، رهيب كأنه متهيء لينفجر؛ فلما بلغوا موضعا من الطريق ينعطفون عنده انصب عليه المدفع الرشاش ...
قال: فإني لجالس بعد ذلك في الديوان إذ دخل علي أخي هذا ينتفض غضبا كأن المعاني تنبعث من جسده لتقاتل، ورأيت له عينين ينظر الناظر فيهما إلى النار التي في قلبه؛ فخشيت أن يكون القوم أطلقوا عليهم الجنون والرصاص معا.
واستنبأته خبر أصحابه فقال: إن الذين كانوا حوله وقعوا يتشحطون في دمائهم، فوقف هو شاخصًا إليهم كأنه ميت معهم، وقد أحس كأنما خلع عن جسمه نواميس الطبيعة، فلا يعرف ما هي الحياة ولا ما هو الموت؛ وكان الرصاص يتطاير من حوله كأن أرواح الشهداء تتلقاه وتبعثره لا يناله بسوء. قال: وما أنس لا أنس ما رأيته في تلك الساعة بين الدنيا والآخرة؛ فلقد رأيت بعيني رأسي الدم المصري يسلم على الدم المصري، ويسعى إليه فيعانقه عناق الأحباب.