للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أساليب القوة التي يعانيها في رياضته اليومية؛ وهو منذ كان في آنفته وشبابه لا يمشي إلا مستأخر الصدر* مشدود الظهر، مرتفع العنق، مسندًا قفاه إلى طوقه؛ وبذلك شب وشاب على استواء واحد، وكلما سئل عن سر قامته وعوده لم يزد على قوله: إن هذا من عمل إسناد القفا**.

وهو دائمًا عطر عبق، ثم لا يمس إلا عطرًا واحدًا لا يغيره، يرى أن هذا الطيب يحفظ خيال الصبي، وأنه يبقي للأيام رائحتها.

وله فلسفة من حسه لا من عقله، ولفلسفته قواعد وأصول ثابتة لا تتغير، ومن بعض قواعدها الزهر، ومن بعضها الموسيقى، ومن بعضها الصلاة أيضًا؛ وكل تلك هي عنده قواعد لحفظ الشباب. ومن فلسفته أن مبادئ الشباب وعاداته إذا هي لم تتغير اتصل الشباب فيها واطرد في الروح، فتكون من ذلك قوة تحرس قوة اللحم والدم، وتمسك على الجسم حالته النفسية الأولى.

وهو يزيد في حكمة الصلاة فكرة رياضية عملية لم ينتبه إليها أحد، هي رياضة البطن والأمعاء بالركوع والسجود والقيام؛ ويقول: إن ثروة الصلاة تكنز في صندوقين: أحدهما الروح لما بعد الموت، والآخر البطن لما قبل الموت؛ ويرى أن الإسلام لم يفرض صلاة الصبح قبل الشمس إلا ليجعل الفجر ينصب في الروح كل يوم.

قال المحدث: وبينما نحن جالسان مر بنا شيخ أعجف مهزول موهون في جسمه، يدلف متقاصر الخطو كأن حمل السنين على ظهره، مرعش من الكبر، مستقدم الصدر منحنٍ يتوكأ على عصًا، ويدل انحناؤه على أن عمره قد اعوج أيضًا، وهو يبدو في ضعفه وهزاله كأن ثيابه ملئت عظامًا لا إنسانًا، وكأنها ما خبطت إلا لتمسك عظمًا على عظم..

قال: فحملق إليه "م" ثم صاح: رينا! رينا. فالتفت العجوز، وما كاد يأخذنا بصره حتى انفتل إليه وأقبل ضاحكًا يقول: أوه!. ريت، ريت!

ونهض "م" فاحتضنه وتلازما طويلًا، وجعل رأساهما يدوران ويتطوَّحان،


* يقال مستقدم الصدر، للهرم المحني الظهر؛ فأخذنا منها مستأخر الصدر، وذلك بروزه حين يكون مشدودًا، فيكون أعلاه إلى الوراء.
** هذه حقيقة رياضية، ولها أقوى الأثر في شد الجسم وانتصاب القامة إذا اعتادها الإنسان.. والمراد بالطوق: البنيقة "الياقة".

<<  <  ج: ص:  >  >>