للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكلاهما يقبل صاحبه قبلًا ظمئة لا عهد لي بمثلها في صديقين، حتى لخيل إلي أنهما لا يتعانقان ولا يتلاءمان، ولكن بينهما فكرة يعتنقانها ويقبلانها معًا..

وقلت: ما هذا أيها العجوزان؟

فضحك "م" وقال: هذا صديقي القديم "ن"، تركته منذ أربعين سنة معجزة من معجزات الشباب، فها هو ذا معجزة أخرى من معجزات الهرم، ولم يبق منه كاملًا إلا اسمه ...

ثم التفت إليه وقال: كيف أنت يا رينا؟

قال العجوز "ن": لقد أصبحت كما ترى؛ زاد العمر في رجلي رجلًا من هذه العصا، ورجع مصدر الحياة في مصدرًا للآلام والأوجاع ودخلت في طبيعتي عادة رابعة من تعاطي الدواء.

فضحك "م" وقال: قبح الله هذه الدخيلة، فما هي العادات الثلاث الأصلية؟

قال العجوز: هي الأكل والشرب والنوم.. ثم أنت يا ريت كيف تقرأ الصحف الآن؟

قال "م": أقرؤها كما يقرؤها الناس، فما سؤالك عن هذا؟ وهل تقرأ الصحف يومًا غير ما تقرأ في يوم؟

قال: آه! إن أول شيء أقرأ في الصحف أخبار الوفيات؛ لأرى بقايا الدنيا، ثم "إعلانات الأدوية" ... ولكن كيف أنت يا ريت؟ إني لأراك ما تزال من وراء أربعين سنة في ذلك العيش الرخي، وأراك تحمل شيخوختك بقوة كأن الدهر لم يخرمك من هنا ولا من هنا، وكأنه يلمسك بأصابعه لا بمساميره، فهل أصبت معجزة من معجزات العلم الحديث؟

قال: نعم.

قال: ناشدتك الله، أفي معجزات العلم الحديث معجزة لعظمي؟

قال "م": ويحك يا رينا! إنك على العهد لم تبرح كما كنت مزبلة أفكار.. ماذا يصنع فيك العلم الحديث وأنت كما رأى بمنزلة بين العظم والخشب؟!

قال المحدث: وضحكنا جميعًا، ثم قلت للأستاذ "م": ولكن ما "رينا وريت"؟ وما هذه اللغة؟. وفي أي معجم تفسيرها؟

قال: فتغامز الشيخان، ثم قال "م": يا بني، هذه لغة ماتت معانيها وبقيت ألفاظها، فهي كتلك الألفاظ الأثرية الباقية من الجاهلية الأولى.

<<  <  ج: ص:  >  >>