قلت: ولكن الجاهلية الأولى لم تنقضِ إلا فيكما ... ولا يزال كل شاب في هذه الجاهلية الأولى، وما أحسب "رينا، وريت" في لغتكما إلا بمعنى "سوسو، وزوزو" في اللغة الحديثة؟
فقال "م": اسمع يا بني: إن رجل سنة ١٩٣٥* متى سأل فيَّ رجل سنة ١٨٩٥: ما معنى رينا وريت؟ فرد عليه: إن "رينا" معناها "كاترينا"؛ وكان "ن" بها صبًّا مغرمًا، وكان مقتتلًا قتله حبها. أما "ريت" فهو لا يعرف معناها.
فامتعض العجوز "ن"، وقال: سبحان الله! اسمع يا بني: أن رجل سنة ١٨٩٥ فيَّ يقول لك: إن "ريت" معناها "مرغريت"، وكانت الجوى الباطن وكانت اللوعة والحريق الذي لا ينطفئ في قلب الأستاذ "م".
قلت: فأنتما أيها العجوزان من عشاق سنة ١٨٩٥، فكيف تريان الحب الآن؟
قال العجوز "ن": يا بني، أن أواخر العمر كالمنفي.. ونحن نتكلم بالألفاظ التي تتكلم بها أنت وأنتما وأنتم.. غير أن المعاني تختلف اختلافًا بعيدًا.
قلت: واضرب لهم مثلًا.
قال: واضرب لهم مثلًا كلمة "الأكل"، فلها عندنا ثلاثة معانٍ: الأكل وسوء الهضم، ووجع المعدة؛ وكلمة "المشي" فلها أيضًا ثلاثة معانٍ: المشي، والتعب، وغمزات العظم ... وكلمة "النسيم"، النسيم العليل يا بني، زيد لنا في معناها: تحرك "الروماتيزم"..
فضحك "م" وقال: يا شيخ..
قال العجوز: وتلك الزيادة يا بني لا تجيء إلا من نقص، فهنا بقية من يدين، وبقية من رجلين، وبقية من بطن، وبقية من، ومن، ومن ... ومجموع كل ذلك بقية من إنسان.
قال الأستاذ "م": والبقية في حياتك.
قال "ن": وبالجملة يا بني فإن حركة الحياة في الرجل الهرم تكون حول ذاتها لا حول الأشياء؛ وما أعجب أن تكون أقصر حركتي الأرض حول نفسها كذلك، وإذا قال الشاب في مغامرته: ليمض الزمن ولتتصرم الأيام! فإن الأيام هي التي تتصرم والزمن هو الذي يمر؛ أما الشيوخ فلن يتمنوه أبدًا؛ فمن قال منهم: ليمض الزمن، فكأنما قال: فلأمض أنا..