ثم قال العجوز: واعلم يا بني أن العلم نفسه يهرم مع الرجل الهرم، فيصبح مثله ضعيفًا لا غناء عنده ولا حيلة له؛ وكل مصانع لنكشير ومصانع بنك مصر واليابان والأمريكتين، وما بقي من مصانع الدنيا، لا فائدة من جميعها؛ فهي عاجزة أن تكسر عظامي ...
قال المحدث: فقهقه الأستاذ "م"، وقال: كدت والله أتخشب من هذا الكلام، وكادت معاني العظم تخرج من عظامي؛ لقد كان المتوحشون حكماء في أمر شيوخهم، فإذا علت السن بجماعة منهم لم يتركوهم أحياء إلا بامتحان، فهم يجمعونهم ويلجئونهم إلى شجرة غضة لينة المهزة، فيكرهونهم أن يصعدوا فيها ثم يتدلوا منها وقد عقلت أيديهم بأغصانها؛ فإذا صاروا على هذه الهيئة اجتمع الأشداء من فتيان القبيلة فيأخذون بجذع الشجرة يرجونها وينفضونها ساعة من نهار؛ فمن ضعفت يداه من أولئك الشيوخ أو كلت حوامل ذراعيه فأفلت الغصن الذي يتعلق به فوقع، أخذوه فأكلوه؛ ومن استمسك أنزلوه فأمهلوه إلى حين!
فاقشعر العجوز "ن"، وقال: أعوذ بالله! هذه شجرة تخرج في أصل الجحيم، ولعنها الله من حكمة، فإنما يطبخونهم في الشجرة قبل الأكل، أو هم يجعلونهم كذلك؛ ليتوهموهم طيورًا فيكون لحمهم أطيب وألذ، ويتساقطون عليهم من الشجرة حمائم وعصافير.
قال "م": إن كان في الوشيحة منطق فليس في هذا المنطق "باب لم"، ولا "باب كيف"، ولو كان بهم أن يأكلوهم، غير أنها تربية الطبيعة لأهل الطبيعة؛ فإن رؤية الرجل هذه الشجرة وهزها وعاقبتها يبعد عنه الضعف والتخلخل، ويدفعه إلى معاناة القوة، ويزيد نفسه انتشارًا على الحياة وطمعًا فيها وتنشطًا لأسبابها، فيكون ساعده آخر شيء يهرم، ولا يزال في الحدة والنشاط والوثبان؛ فلا يعجز قبل يومه الطبيعي، ويكون المتوحشون بهذا قد احتالوا على الطبيعة البشرية فاضطروها إلى مجهودها، وأكرهوها على أن تبذل من القوة ما يسع الجسم.
قال "ن": فنعم إذن، ولعن الله معاني الضعف؛ كدت والله أظن أني لم أكن يومًا شابًّا، وما أراك إلا متوحشًا تخاف أن تؤكل، فتظل شيخًا رجلًا لا شيخًا طفلًا، وترى العمر كما يرى البخيل ذهبه: مهما يبلغ فكثرته غير كثيرة.