ظهرت منه في شكلها القانوني الدقيق، وبهذا تراه يغمر الرجال مهما كانوا أذكياء، لأن فيه ما ليس فيهم، وتراهم يظهرون إلى جانبه أشياء ثابتة في معانيها، أما هو فتراه من جميع نواحيه يتلاطم كالأمواج العاتية.
وتلك الثورة هي التي تتكلم في فمه أحيانا فتجعل لبعض كلماته قوة كقوة النصر، وشهرة كشهرة موقعة حربية مذكورة.
ولما كان هو المختار ليكون أبا للثورة, حرمته القدرة الإلهية النسل، وصرفت نزعة الأبوة فيه إلى أعماله التاريخية، ففيها عنايته وقلبه وهمومه، وهي نسل حي من روحه العظيمة، ويكاد معها يكون أسدًا يزأر حول أشباله، ولن يذكر السياسيون المصريون مع سعد، ولن يذكر سعد نفسه إذا انقلب سياسيا، فإن المكان الخالي في الطبيعة الآن هو مكان رجل المقاومة لا رجل السياسة، وهذا هو السبب في أن سعدًا يشعر الأمة بوجوده لذة كلذة الفوز والانتصار، وإن لم يفز بشيء ولم ينتصر على شيء؛ فاطمئنان الشعب إلى زعيم المقاومة، هو بطبيعته كاطمئنان حامل السلاح إلى سلاحه.
وسعد وحده هو الذي أفلح في أن يكون أستاذ المقاومة لهذه الأمة؛ فنسخ قوانين، وأوجد قوانين، وحمل الشعب على الإعجاب بأعماله العظيمة، فنبه فيه قوة الإحساس بالعظمة فجعله عظيما، وصرفه بالمعاني الكبيرة عن الصغائر، فدفعه إلى طريق مستقبله يبدع إبداعه فيه.
إن هذا الشرق لا يحيا بالسياسة ولكن بالمقاومة ما دام ذلك الغرب بإزائه؛ والفريسة لا تتخلص من الحلق الوحشي إلا باعتراض عظامها الصلبة القوية في هذا الحلق.
وكم في الشرق من سياسي كبير يجعلونه وزيرًا، فتكون الوظيفة هي الوزير لا نفس الوزير، حتى لو خلعوا ثيابه على خشبة ونصبوها في كرسيه، لكانت أكثر نفعا منه للأمة، بأنها أقل شرًّا منه.
يا بني، كل الناس يرضون أن يتمتعون بالمال والجاه والسيادة والحكم، فليست هذه هي مسألة الشرق، ولكن المسألة: من هو النبي السياسي الذي يرضى أن يصلب؟